#الثائر
- " اكرم كمال سريوي "
تحاول إسرائيل دائما ممارسة الحرب النفسية، وعرض مشاهد الانفاق او لاسرى من حزب الله، أو رفع علم إسرائيل داخل الأراضي اللبنانية، وهذا طبعاً من أجل رفع معنويات الجيش الاسرائيلي، ومحاولة تبرير الإفراط في استخدام القوة التدميرية للقرى والمدن اللبنانية.
من الطبيعي أن تكون المقاومة قد حفرت أنفاقاً واستعدت للمعركة مع إسرائيل، وهي لم تخفِ ذلك، وعرضت فيديو يُظهر منشأة عماد-٤ و "عماد-٥" تحت عنوان "جبالنا خزائننا"، وليس مستبعداً أن تكون نجحت إسرائيل في الدخول إلى بعض الأنفاق القريبة من الحدود، واستحوذت على بعض الأسلحة والذخائر، فهذا كله جائز في الحرب.
معظم الأسلحة تُستخدم في الدفاع والهجوم، لكن الصواريخ المضادة للدروع التي تم الاستيلاء عليها وعرضها الجيش الإسرائيلي، هي غالباً وسائل دفاعية، بعكس راجمات الصواريخ والصواريخ بعيدة المدى والمسيّرات، التي تستخدم بشكل رئيسي لتنفيذ هجمات على مراكز وتحشدات العدو في العمق.
تحاول إسرائيل أن تُصوّر بأنها حققت إنجازاً بالاستيلاء على بعض الأنفاق والذخائر العائدة لرجال المقاومة، لكن الحقيقة هي أن الجيش الإسرائيلي رغم كل القوة النارية، والزج بخمس فرق على جبهة الشمال، ما زال عاجزاً عن تحقيق خرق مهم، وكل يوم يصدر بياناً يتحدث فيه عن ما يسميه "حادث صعب" على جبهة لبنان، ويتكبد عدداً كبيراً من الخسائر بين قتيل وجريح، من قوات النخبة لديه.
اذا قارنا بين اجتياح عام 1982 والحرب اليوم، نرى أن الدبابات الاسرائيلية عام 1982 وصلت إلى مشارف بيروت في 9 حزيران، أي بعد ثلاثة أيام من بدء الهجوم، في حين أنها اليوم لم تنجح في تحقيق أي تقدم بري مهم على الجبهة الجنوبية، رغم مرور أكثر من شهر ونصف على إعلان هاغاري بدء الهجوم البري الشامل على لبنان.
قد يقول البعض أن إسرائيل اعلنت أنها ستنفذ توغلاً محدوداً، لكن في الحقيقة لا يحشد جيش في العالم خمس فرق عسكرية لاحتلال قرية او عدة قرى صغيرة، فالخطط الإسرائيلية التي كُشف عنها وعُرضت على قيادة الجيش ومجلس الوزراء المصغّر، واطّلع عليها الجنرال الأمريكي مايكل كوريلا عندما زار منطقة الشمال، تقضي بتنفيذ هجوم على أربعة محاور، يصل في مرحلته الأولى إلى مجرى نهر الليطاني، أما المرحلة الثانية فتقضي باحتلال كامل منطقة الجنوب، حتى مجرى الأولي شمال صيدا وإلى مرتفعات جزين وصولاً إلى حاصبيا شرقاً.
لا شك أن وسائل الحرب تغيّرت، وكذلك طُرق خوض المعركة، وإن امتلاك المقاومة لصواريخ مضادة للدروع متطورة، من نوع كورنت والماس-١ و ٢ ، التي يصل مداها إلى 10 كلم، بدقة اصابة تفوق 99% وإمكانية الرمي الليلي، عطّل دور الآليات المدرعة للعدو الإسرائيلي، وبات يعتمد على عمليات تسلل لوحدات النخبة، وهذا جعله يتكبد خسائر كبيرة في القتال المتقارب، لأنه يتعطل دور سلاح الجو (الذراع الطويلة) الذي يتفوق به على حزب الله، ويسطيع بواسطه أن يقتل ويدمر، دون أن تُصاب مواقعه وجنوده بأذى كبير.
لا يمكن لوحدات النخبة أن تنفذ عملية اجتياح بري واسع، فهي تقوم بعمليات خاصة، مثل الإغارة والإنزال والكمائن، وعمليات تسلل لتدمير اهداف مهمة، كمراكز القيادة او اللوجستية او الاتصالات وغير ذلك.
أما مهمة احتلال الأرض، فهي ملقاة على عاتق وحدات المدرعات والمشاة الآلية، التي غالباً تتقدم تحت غطاء ناري كثيف من المدفعية والطيران، وترافقها المروحيات في دعم مباشر .
من الواضح أن إسرائيل تعلمت درساً قاسياً في عام 2006 عندما دفعت بكتيبة دبابات بسرعة نحو النبطية، عبر وادي الحجير ، ولم تتعرض لاي مقاومة، حتى وصلت إلى بقعة قتل، ففتكت بها المقاومة بصواريخ المضاد للدروع.
واليوم باتت أسلحة المقاومة المضادة للدروع أكثر فتكاً، وبمدى يصل إلى 10 كلم، هذا إضافة إلى وجود صواريخ متطورة نسبياً مضادة للطائرات، تم عبرها اسقاط عدة مسيرات من نوع هيرمز، كانت تُحلّق على ارتفاع حوالي 10 كلم، وهذا الأمر أربك الإسرائيلي، ودفعه إلى الامتناع عن استخدام المروحيات فوق الجنوب اللبناني، واقتصرت مهمتها على نقل الجرحى والقتلى من الحدود إلى داخل فلسطين المحتلة، دون أن تخاطر بدخول الأجواء اللبنانية لتنفيذ عمليات قصف أو انزال.
من ناحية ثانية فإن النجاح في أسر بعض العناصر مهم في الحرب، لأنهم يشكّلون مصدراً مهماً للمعلومات، التي يحتاجها أي جيش، خاصة بالنسبة لإسرائيل، التي تقاتل اليوم ضد عناصر مقاومة تعتمد بشكل رئيسي على السرية وإخفاء مراكزها ومخازن ذخيرتها وأسلحتها، وهي ليست كالجيوش النظامية التي تكون غالباً مراكزها وثكناتها ظاهرة ومعروفة.
حذّرت إسرائيل جنودها من التهور أثناء المعارك، وخطر الوقوع في الأسر، وهذا انعكس بشكل كبير على طريقة عمل الجيش الإسرائيلي، الذي راح يعتمد سياسة الأرض المحروقة، وكثافة نارية غير مسبوقة خلال كل عملية توغّل.
لم تنجح القوات الاسرائيلية في إحكام سيطرتها على القرى اللبنانية التي دخلتها، ونفذت مؤخراً انسحاباً من أطراف عدة بلدات مثل ؛ حولا الطيبة و الخيام .
يأتي هذا الانسحاب كخطوة تكتيكية ضرورية لتجنّب الخسائر، فكل جيش عندما يحتل أي نقطة، يكون لديه ثلاث خيارات؛ إما الدفع بمزيد من القوات لمتابعة التقدم، أو التمركز دفاعياً وتحصين المواقع المحتلة، وإما تدمير المواقع والانسحاب.
وهذا الخيار الأخير الذي اعتمده الجيش الإسرائيلي، هو ناتج عن عدم رغبة بالمخاطرة بدفع وحدات كبرى في عمق الأراضي اللبنانية، طالما المقاومة ما زالت تملك قوة نارية كبيرة، وقادرة على تدمير الدبابات والآليات المدرعة، التي ستكون مكشوفة ومقيّدة بطرق سير محددة بسبب طبيعة الأرض الجبلية والمبنية في آن واحد، وهذا يحدّ كثيراً من قدرة المدرعات على الحركة والمناورة، خاصة في ظل تعطّل دور المروحيات.
أما خيار التمركز دفاعياً، فهو ممكن لكن يحتاج إلى وقت لبناء التحصينات، إضافة إلى تأمين طرق اللوجستية والإمداد ، والدفع بوحدات المدرعات والمشاة، وهذا أيضاً أمر صعب في الظروف الراهنة.
كل هذه العوامل أجبرت إسرائيل على اتخاذ خيار الاحتلال ثم التدمير والانسحاب، ولكن هذا الخيار بدا دون جدوى، خاصة مع الكلفة العالية التي يتحدث عنها الإسرائيلي، بعبارة مُلطّفة "يوم صعب في الشمال: وهذا يعني خسائر كبيرة بالأرواح والعتاد، ووفق الصحف الإسرائيلية فاق العدد 900 جريح و 93 قتيلاً على جبهة لبنان، خلال هذه الفترة وتدمير 43 دبابة ميركافا وأربع جرافات.
ربما النقطة الأهم في هذه المواجهة بالإضافة إلى عدم تحقيق الأهداف المعلنة، هي استباحة صواريخ ومسيّرات المقاومة للأجواء الإسرائيلية، ووصولها إلى أهداف حساسة واستراتيجية، حتى قتسارية وقاعدة تل نوف جنوب تل ابيب، وعجز الدفاعات الجوية وسلاح الطيران، عن التصدي لمخاطر هذه المسيرات.
هذا الأمر شكّل تحدياً كبيراً للجيش الإسرائيلي، الذي أقر بعجزه من دفع خطر المسيرات، التي باتت تقلق القيادة السياسية والعسكرية، وتتسبب بحالة رعب من دوي صفارات الانذار لدى المستوطنين، الذين بادر قسم منهم إلى مغادرة الشمال، وحتى أن بعضهم سافر إلى الخارج.
في الختام لا يمكن انكار قدرة إسرائيل على القتل والتدمير، وهي تفعل ذلك بشكل مفرط للغاية، لكن أيضاً لا يمكن إنكار حالة القلق داخل إسرائيل، ونجاح المقاومة في منع العدو من التوغل داخل لبنان، واستمرارها في ضرب أهداف مهمة في داخل فلسطين المحتلة، وإيقاع خسائر كبيرة بالعدو، بشرية ومادية ومعنوية.
فالواقع الميداني المؤلم للشعبين الفلسطيني واللبناني، لم يكسر إرادة المقاومة، ولم يحقق نصراً لإسرائيل، فقيمة أي حرب تُقاس بتحقيق الأهداف الاستراتيجية للحرب، أما فاتورة التحرر ودحر الاحتلال، فمن الطبيعي أن تكون عالية، لكن لا شيء يعادل الحرية التي تبقى أثمن ما في الحياة.