#الثائر
رئيس التحرير اكرم كمال سريوي -
تبادلت إسرائيل وإيران رسائل عديدة في السر والعلن، وعبر الوسطاء، من وزير خارجية ايرلندا، إلى الوفد الروسي الذي زار تل ابيب مؤخراً، وصولاً إلى العرب والأوروبيين والأمريكيين، وأفضت الإتصالات إلى ضبط إيقاع الضربات بين إيران وإسرائيل، من قِبل الولايات المتحدة الامريكية، الراعي الدولي الأول وشبه الوحيد، لمنطقة الشرق الأوسط.
يملك كل من الأطراف الثلاثة نقاط قوة ونقاط ضعف، جعلت الحاجة إلى تفاهمات سرية مباشرة وغير مباشرة تحتل الأولوية لدى هذه الدول، وأقفل مشهد الصراع على تهدئة ولو مؤقتة، بانتظار أن تتضح معالم الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وما يليها من نتائج للحروب، في أكثر من نقطة مشتعلة في العالم، وعلى رأسها طبعاً الحرب في أوكرانيا، واحتمال انفجار الوضع في تايوان، وميدان غزة، وجبهة لبنان.
قال وزير الدفاع الاسرائيلي يوأف غالنت: أن "إسرائيل لا تحتاج الآن إلى فتح جبهة جديدة"، وهذا كلام منطقي لدولة غارقة منذ أكثر من سنة في حرب على عدة جبهات، لم تستطع خلالها أن تحقق أي من الأهداف المعلنة، رغم استخدامها كمّاً هائلاً من الأسلحة والذخائر الفتاكة، وتدمير مجمعات سكنية بأكملها في غزة وفي لبنان، لكن الدمار والاعتماد على سلاح الطيران وحده لن يحقق النصر، فستالينغراد لم يترك فيها الألمان حجراً على حجر، ثم تحوّل الركام إلى متاريس للجيش السوفياتي، الذي استنزف قوات هتلر، وانطلق من هناك حتى وصل إلى برلين، وحوّلها إلى ركام.
تفصل بين إيران وإسرائيل مسافة أكثر من ألف كلم في أقرب نقطة، وهذا يجعل الحرب بينهما تأخذ شكلاً آخر، يقتصر على تبادل الضربات المباشرة بالصواريخ والطائرات حيناً، والحرب بالوكالة عبر استخدام الحلفاء حيناً آخر.
في الميزان العسكري تملك إيران عمقاً استراتيجياً ضخماً، فالمسافة بين أقصى الشمال واقصى الجنوب تزيد على ألفي كلم، بمساحة تبلغ 1,648,195 كيلومتراً مربعاً، في حين تبلغ مساحة فلسطين المحتلة (إسرائيل) 22 الف كلم مربع، أي أن مساحة إيران تساوي 73 مرة مساحة إسرائيل.
وفي حين تتفوق إسرائيل على إيران بسلاح الجو، وتملك أفضل الطائرات الحربية الأمريكية، منها 36 طائرة F-35A الشبحية،(والتي شاركت عشرة منها في الهجوم الأخير على إيران) فإن إيران تملك ترسانة ضخمة من الصواريخ، القادرة على الوصول إلى إسرائيل، ومنها صواريخ فتاح الفرط صوتي، الذي تصل سرعته إلى 15 ماخ (قادر على الوصول إلى إسرائيل في أقل من 10 دقائق).
في هذه المواجهة بين الصواريخ الإيرانية، والطائرات الحربية الاسرائيلية، ترجح الكفّة لمصلحة الصواريخ، التي يمكن لإيران إطلاق رشقات كبيرة منها، قد تفوق في اليوم الواحد الألف صاروخ، وهي قادرة على استنزاف وشل الدفاعات الجوية الإسرائيلية، وتدمير أهداف استراتيجية، وإلحاق أضرار كبيرة بإسرائيل.
لكن هذا الكلام لا يعني أن إسرائيل غير قادرة على ايذاء إيران، خاصة أن طائراتها قادرة على ضرب أهداف داخل إيران، من مسافات بعيدة وحتى دون أن تضطر إلى دخول المجال الجوي الإيراني، لكن هذه الضربات ستكون مكلفة جداً، وأمامها معوقات مثل ضرورات التزود بالوقود في الجو، وانتهاك سيادة دولتين عربيتين على الأقل، لتمر وتصل إلى إيران.
لا تستطيع إسرائيل أن تواجه إيران منفردة ودون دعم ومشاركة أمريكية، ولكن دخول أمريكا حرب مباشرة ضد إيران سيضر بمصالحها في المنطقة، دون أن تتمكن الولايات المتحدة الامريكية من تحقيق أهداف استراتيجية، فأي مواجهة مع إيران، قد تُشعل حرباً شاملة، تدفع بأسعار النفط إلى مستويات غير مسبوقة، وخسائر اقتصادية بمئات مليارات الدولارات، خاصة لأمريكا والدول الأوروبية وكل مجموعة العشرين.
تُدرك الأطراف الثلاثة في هذه المواجهة، أن لا مصلحة لأي منها بالدخول في حرب شاملة، ولذا اقتصر الأمر على توجيه رسائل مشفّرة بالنار
فأرسلت الولايات المتحدة الامريكية منظومة ثاد الصاروخية إلى إسرائيل، رغم وجود منظومة مماثلة في قاعدة النقب الامريكية التي تحتوي أحدث الرادارات، المخصصة للكشف عن اي اطلاق للصواريخ من إيران، ثم اتبعت ذلك بارسال قاذفة لضرب القوات الحوثية في اليمن، كتحذير ورسالة لإيران .
أما إسرائيل فأكدت لإيران بأن طائراتها قادرة على الوصول إليها وضرب أهداف في طهرن، حتى من خارج الأجواء الإيرانية.
لكن إيران نجحت أيضاً في ردع إسرائيل، وإيصال رسالة واضحة عن قدراتها الصاروخية، وأبلغت الأمريكين، أن تهديداتهم لا تمنع إيران من الرد على الاعتداءات الاسرائيلية، وأن إيران لا تريد المواجهة مع أمريكا، لكنها ليست بوارد القبول بتقليص دورها في المنطقة.
في الخلاصة يبدو حتى الآن أن الكل يعتقد أنه خرج رابحاً من هذه المواجهة.
فنتنياهو ورغم بعض الانتقادات الداخلية له، واتهامه بالجبن، وعدم التجرؤ على توجيه ضرب قوية لإيران، نجح في إقناع المؤيدين لخياراته الحربية، وقسمًا كبيراً من الإسرائيليين، بأنه الرجل القوي والأصلح لقيادة إسرائيل في هذه المرحلة الصعبة
أما إيران فتداركت الحرب الشاملة والمواجهة الصعبة مع الولايات المتحدة الامريكية والغرب، ونجحت في ردع إسرائيل، وأظهرت لها أنها قادرة على استخدام سلاح الصواريخ بفاعلية أكبر، في حال توسعت الحرب.
أمًا الولايات المتحدة الامريكية فهي الرابح الأكبر، بحيث نجحت في إثبات أنها هي اللاعب الأقوى، والدولة الوحيدة في العالم، القادرة على رسم الخطوط الحمراء للجميع، وابعدت روسيا والصين، بشكل شبه كامل، عن ما ترسمه لمستقبل منطقة الشرق الأوسط.
رسائل مشفّرة بالنار، لكنها لا تحتاج إلى الذكاء الاصطناعي لفكها، بل مجرد قراءة هادئة وموضوعية للأحداث، تكشف الكثير من الأسرار، ويبدو أن الاندفاعة الأمريكية لوقف الحرب، ستؤتي ثمارها قريباً، ولم يأتِ تصريح ترامب الأخير من العدم، عندما قال: "عندما أصبح رئيساً، سأنهي الفوضى في الشرق الأوسط"، لكن الرئيس جو بايدن وادارته الديمقراطية باتت أكثر حاجة اليوم لوقف اطلاق النار في غزة ولبنان قبل موعد الانتخابات الامريكية.
وفي ظل استحالة تحقيق أهداف نتنياهو للحرب بالقوة، مهما بلغ القتل والدمار، وفي ظل عبارة "يوم صعب في الشمال" التي باتت تتردد كل يوم على لسان الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، وما تعنيه هذه العبارة من خسائر كبيرة يتكبّدها في العتاد والأرواح، ويحاول أن يتكتم عليها، فتفضحه مشاهد المروحيات التي تنقل القتلى والجرحى إلى المستشفيات، أصبح الوضع صعبًا للغاية على حكومة إسرائيل، الراغبة في استمرار الحرب، لضمان بقائها في الحكم، ولكنها غرقت في وحل غزة وأتون لبنان، فلا الاستمرار بالحرب ممكن ومجدي، ولا وقف الحرب وإعلان نصر مزيف سيكون مقنعاً للإسرائيليين.
فمن يُنقذ المنطقة من جنون نتنياهو وسموتريش وبن غفير؟ ومن سينقذ نتنياهو من مأزق الفشل الأكيد؟؟.