#الثائر
-" اكرم كمال سريوي " ==خاص===
قدم أمس رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل مطالعة مطوّلة، جاءت بالشكل مشابهة لخطاباته السابقة، لكنها تضمّنت رسائل معلنة وأخرى مضمرة للحلفاء أولاً وللأخصام ثانياً، قرأها البعض بسلبية تامة، فيما رأى فيها أنصار التيار وحلفاؤه مطالب محقّة يجب التوقف عندها.
الحقوق المسيحية!
تُشكّل الطائفية الحصانة الأقوى للزعماء اللبنانيين، وهم عادة يلجأون إليها كلما شعروا بالخطر على دورهم وحصتهم في السلطة. هكذا تم تحويل الصراع في لبنان من خلاف على النظام والإصلاحات، إلى صراع على حقوق الطوائف وحصتها في الحكم. فإثارة العصبيات الطائفية هي أقصر الطرق للوصول إلى قلوب اللبنانيين، الذين عندما تتحرك غرائزهم يتحولون إلى جنود انتحاريين، يتبعون بالفطرة زعيم المذهب الذي يُشعرهم بالقوة والقدرة على حماية حقوقهم الموهومة.
لقد طلب باسيل من سعد الحريري عدم تمنين المسيحيين بوقف العد، وتعمّد التذكير بما قاله له الرئيس السوري بشار الأسد عن دعمه لبقاء الرئاسة في لبنان للمسيحيين حتى لو أصبحوا يشكّلون ١٪ لأن ذلك مهم للحفاظ على التنوع، دون أن ينتبه أن الأسد يبيعه من كيس غيره ، كما ان هذا الأمر لا يعترض عليه المسلمون في لبنان. ولم ينسَ باسيل طبعاً التذكير بدور التيار في الدفاع عن هذه الحقوق، موجهاً الاتهام للقوى المسيحية الأخرى بالتخاذل، في حين أنها استفادت مما حققه التيار خاصة في موضوع الانتخابات النيابية.
عندما زار سعد الحريري الرئيس حسان دياب في السراي الحكومي للتضامن معه في وجه الادعاء عليه من قبل القاضي صوان في ملف انفجار المرفأ، اعترض وليد جنبلاط على الزيارة باعتبارها ستسبب إثارة للحساسية الطائفية عند المسيحيين ، خاصة اتجاه الحريري. وأمس تعمّد باسيل التركيز على الموضوع الطائفي في مواجهة الحريري، مصوّراً إياه بأنه يسعى إلى الأعتداء على حقوق المسيحيين، وإلغاء دور رئيس الجمهورية.
لقد اعتمد باسيل التركيز في كل خطاباته على نقطة الضعف هذه لدى المسيحيين، فهو لا يترك مناسبة إِلَّا ويتحدث فيها عن حقوقهم المسلوبة، مذكّراً بالخلافات والحروب منذ ١٨٦٠ ، مانحاً صك البراءة لقياداتهم وملقياً بالجرم على المسلمين وحدهم خاصة الدروز، متجاهلاً تماماً ما يُحدثه كلامه من ردود فعل لدى هذه الطوائف، خاصة أنها تشعر بالغبن، وأنهم تحولوا بفضل نظام الأمتيازات الطائفية إلى مواطنين من درجة ثانية وثالثة ورابعة، وفقدوا ابسط حقوقهم بالعدالة والمساواة . فجُلّ ما يهم باسيل هو شد العصب الطائفي لجماعة التيار، بعد أن بدأت تشتد المعارضة له في السياسة، حتى من أقرب المقربين كعديله شامل روكز وغيره .
الحكومة والإصلاح !
أظهر باسيل في الموضوع الحكومي وعن غير قصد أنه صاحب القرار الأول في الفريق الرئاسي لإعطاء الموافقة على ولادة الحكومة المنتظرة. فإذا كان التيار لم يسمِّ سعد الحريري لرئاسة الحكومة ولا يريد المشاركة فيها فما معنى أن يضع الشروط والمطالب لتشكيلها؟ ولماذ لا يحذو حذو القوات اللبنانية مثلاً، ويترك الموضوع الحكومي لرئيس الجمهورية ليتفاهم مع الرئيس المكلف؟ .
اعتبر باسيل أن حصة الرئيس عون والتيار الوطني الحر هي غير حصة الطاشناق وغير الحصة التي يطالب بها طلال ارسلان كحق للطائفة الدرزية. ولكن الجميع يعلم أن الطاشناق وارسلان هم من ضمن تكتل لبنان القوي، وسيشكلان حصان طروادة لباسيل داخل الحكومة، فهو يسهل عليه التحكم بقرارهما خلافاً لما هو الحال مع وزراء حليفه حزب الله .
ورغم أن كلام باسيل ينمُّ عن وجود مساعٍ تُبذل لتشكيل الحكومة، والمح إلى أن عدم وجودها ليس في مصلحة العهد، وأن هناك أسباب خارجية تُعطّل التأليف، لكنه أبقى على شروطه للأفراج عنها، وأوحى بأنه مصرٌ على الإمساك بالحصة المسيحية فيها، منكراً على الرئيس المكلف الحق بتسمية وزراء مسيحيين، ومتهماً إياه بالخيانة والتعطيل، ومركّزاً أن الحريري يخالف جوهر المبادرة الفرنسية التي طرحت حكومة اختصاصيين، لأنه ليس من ذوي الاختصاص .
ويرد تيار المستقبل على هذا بأن باسيل يتناسى أن رئاسة الحكومة هي مركز سياسي للطائفة السنية، كما هو حال الرئاستين؛ الأولى المتفق عليها للموارنة والثانية المخصصة للشيعة، وبالتالي يجب أن تكون الرئاسة الثالثة من نصيب سعد الحريري، وذلك فقاً لطرح التيار الوطني الحر، بان يكون المركز الرئاسي من نصيب الأقوى في طائفته. وهذا سينسحب أيضاً على التمثيل الدرزي في الحكومة في حال رفع العدد، بحيث يطالب اللقاء الديمقراطي أن يكون الوزير الثاني من حصته، وفقاً لقاعدة الأكثر تمثيلاً لطائفته في البرلمان، باعتبار ذلك خيار الشعب وفق تعبير باسيل نفسه .
تلبية طلب السيد نصرالله !
أبدى السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير انزعاجه من كلام جبران باسيل عن ضرورة تعديل اتفاق مار مخايل، وأن الحزب لم يلاقِ التيار في معركة الإصلاح ومحاربة الفساد، وطالب السيد نصرالله بان لا يتم التحدث بالعلن عن هذه الخلافات، كما طرح مخرجاً لأزمة تشكيل الحكومة بزيادة العدد وعدم حصول أي طرف على الثلث المعطّل.
لم يتطرق باسيل في حديثه بالأمس إلى اتفاق مار مخايل وذلك نزولاً عند رغبة السيد حسن نصرالله، وتبنى اقتراحه بزيادة عدد الوزراء، لكنه رفض اعتبار حصة الطاشناق من ضمن حصة رئيس الجمهورية.
بقاء المشكلة!
ذكّر باسيل بالعقوبات التي تعرض لها من قِبل الأمريكيين، وهو يشعر طبعاً بضيق من هذا الأمر الذي وضع حداً لطموحه الرئاسي على الأقل، إذا لم نقل مستقبله السياسي. فمنذ اليوم الأول للعقوبات أراد باسيل أن يستثمر ذلك مع حزب الله وهو يعتبر أن علاقته به هي السبب الرئيسي في فرض العقوبات عليه ، وانطلاقاً من ذلك أراد باسيل تعديل اتفاق مار مخايل، فماذ يريد باسيل أن يعدّل ؟
لقد بات عهد العماد عون في نهايته، ولا شك أن باسيل يعتبر نفسه الوريث الشرعي الوحيد له، ويعلم جيداً حاجة حزب الله وحتى النظام السوري إلى حليف مسيحي قوي . وكونه لا يمكن للحزب التحالف مع قائد القوات اللبنانية سمير جعجع أو مع حزب الكتائب اللبنانية، ولا يمكن للمردة أن تؤمن له الغطاء المسيحي الكافي، فأصبح الخيار الوحيد للحزب هو التحالف مع التيار الوطني الحر . لكن باسيل يريد ثمناً لذلك وهو تعهد الحزب بدعمه لمنصب الرئاسة، وتكرار ما حصل مع العماد ميشال عون .
سيكون من الصعب جداً على الحزب أن يكرر تجربة إيصال العماد ميشال عون مع باسيل، وهو يعلم جيداً الظروف المستجدة، كما سيكون عليه هذه المرة التضحية من جديد بتحالفه مع سليمان فرنجيه الذي حظي المرة الماضية بدعم أمل والأشتراكي والمستقبل، ولذا فإن حزب الله ليس متحمساً لتعديل اتفاق مار مخايل وحسم موقفه من الرئاسة الآن .
يريد باسيل ضمانة داخل الحكومة المقبلة ليفرض على الجميع قراره بما فيهم حليفه حزب الله، خاصة أن إجراء الانتخابات النيابية المقبلة غير مضمون في ظل وجود وباء كورونا، والتشنج السياسي الحالي، واحتمال التغيير الذي قد يصبُّ في غير مصلحته في حال حصول الانتخابات. والأهم من ذلك وجود منافسين أقوياء على مركز الرئاسة الأولى .
فلقد أظهر قائد الجيش العماد جوزيف عون حكمة في التعاطي مع الأحداث التي مر بها لبنان، منذ حادثة قبر شمون إلى ثورة ١٧ تشرين إلى أحداث طرابلس الأخيرة ، وهذا طبعاً إضافة إلى ما ابداه من نزاهة داخل المؤسسة العسكرية، بدءاً من ملف الكلية الحربية إلى عدة ملفات أُخرى، وضعت الكفاءة فوق أي معيار أو اعتبار آخر . كما أن قائد الجيش بات لديه علاقات جيدة مع مختلف الأطراف السياسية في الداخل والخارج، وكل ذلك يجعل منه المرشح الأقوى للرئاسة، وهذا ما يخشاه باسيل طبعاً.
لا ينم خطاب باسيل في الأمس عن وجود حلول قريبة، أكان على الصعيد الحكومي أو على صعيد تحسين العلاقات مع أخصامه الكُثر . فإذا استثنينا الحلفاء التابعين للتكتل مثل الطاشناق وأرسلان ، وفي ظل تعرّض التيار للتشققات الداخلية وانفصال كوادر وأصدقاء مهمين ، فلم يبقَ لباسيل سوى حزب الله، والذي بات أيضا يمتعض من بعض التسريبات عن أحاديث وانتقادات باسيل له ، مع بعض المقربين والدبلوماسيين الأجانب، والتي وصل قسم كبير منها إلى مسامع الحزب ، كما أن الحزب لا يستسيغ أن يستخدمه باسيل في بازاره السياسي لمحاسبة أخصامه والانتقام منهم، خاصة حلفاء الحزب كحركة أمل وتيار المردة.
لذلك يرى المراقبون أن باسيل لم يتمكن في خطاب الأمس من إنقاذ صورته التي تهشمت في الشارع اللبناني، وأن اللعب على الوتر الطائفي بات يضرّه أكثر مما يفيده، وأن حديثه عن الإصلاح لم يعد يصدقه العدد الأكبر من اللبنانيين، وأما مخاطبة عناصر التيار ب « يا اخوتي» فهي أيضاً جاءت متأخرة بعد أن أساء باسيل لقسم كبير منهم. وبالتالي بات يحتاج إلى معجزة للعودة إلى ما كان عليه من قوة ، والأسوأ من ذلك كله أنه ما زال مصرّاً على ارتكاب ذات الأخطاء السابقة ولم يستفد من تجارب الأمس.