تابعنا عبر |
|
|
الثائر تقدم لكم تقنية الاستماع الى مقالاتها علّم أي مقطع واستمع إليه
#الثائر
- " ظافر مراد "
تُعتبر صناعة الميليشيات، إحدى أكثر الوسائل إضعافاً لمفهوم الدولة ولانتزاع دورها في الأمن والسياسة، وربما في الإقتصاد. وفي العادة يكون هدف هذه الميليشيات، الحصول على مكتسبات قد تكون مُحقّة أو غير مُحقّة، ونوع هذه المكتسبات قد يكون معنوياً أو مادياً، أو الإثنين معاً. وفي العادة أيضاً يكون هناك داعم خارجي، والدعم الخارجي يأتي لعدة أسباب، أكثرها شيوعاً عدم قبول مصدر الدعم للنظام القائم، والنية بإستبداله بنظام آخر يزيد من توسيع نفوذ هذا المصدر، ويحقق له السيطرة على مقدرات البلاد وموقعها الإستراتيجي. ولا يهم مدى الكلفة والمعاناة التي يتكبدها المناصرون والموالون في البلد المنكوب، طالما أنهم يصورون لهم أن القضية مقدسة وتعلو على كل الحقوق المدنية والإنسانية وإرادة الحياة والعيش الكريم.
أما كيف تصنع الميليشيات، فذلك يتطلب مراحل معقدة، أهمها الإعلان والتسويق للقضية، مهما كانت الصعوبات والعوائق التي تقف في طريقها، وفي البداية تكون القضية جذابة تستهوي نسبة كبيرة من فئات معينة، وتدفعهم إلى حضنها عبر موالاة مطلقة مغلفة برومانسية خادعة، تكرّس وتؤمن الحاجة إلى الشعور بالشجاعة والبطولة ، من خلال المشاركة في النضال ودفعهم إلى التضحية. ويسقط في هذا الفخ عادة الشباب الذين هم أكثر عنفاً وأكثر جرأة، والذين هم أيضاً أكثر تأثّراً بالوجدانيات وأكثر حاجة للعاطفة، فيكونوا ضحية لعمليات نفسية وتسويق سياسي وأيديولوجي جارف، ووقوداً لحرب في سبيل قضية قد تنطلق من مباديء وأهداف مُحقّة، ولكنها تنتهي بإزالة الدولة وإستبدالها بالفوضى العارمة.
تكون السلطة القائمة ومن يمثلها في العادة، الخصم الحقيقي لهذه الميليشيات، أو لأي جهة تهدف من خلال مواقفها ونشاطاتها، إلى إضعاف دور الدولة وتقييد أجهزتها وإداراتها، ولكن أن تعمد هذه السلطة إلى لعب دور مزدوج وديماغوجية قاتلة، وأن تكرّس الأمن الذاتي، وفوضى السلاح، وأن توكل مسؤولياتها في الأمن والسياسة والإقتصاد إلى قوى الأمر الواقع، فهذا لم نعهده إلا في هذا الزمن الرديءفي بلدنا، حيث يستحضر من يعتبرون أنفسهم قيّمين على مصلحة الوطن، الخطاب الطائفي والمذهبي، ويُمعنون في نزع قيم المواطنة والولاء الحقيقي للدولة، عن الشرفاء الذين ما زالو يتمسكون ويُصرّون على العيش في وطن حر سيد ومستقل، يريدونه ضمانة لمستقبل أولادهم، ومرتعاً للعيش الكريم وللحرية والرفاهية.
إن إستبدال المواطنة الحقيقية بالإنتماء المليشياوي الذي يستند على خلفيات دينية وطائفية، هو إعلان مبطّن عن النية لتفكيك الدولة وإستبدال لبنان الكبير، بباقة من الكانتونات المتناقضة، والتي تحمل في بذورها عناصر تدمير الذات، كذلك إن تغيير وجه لبنان الثقافي والحضاري والسياسي، وأخذه بالكامل إلى نادي الدول التوتاليتارية وإقحامه في المواجهة العبثية مع المجتمع الدولي، لن يؤدي إلا إلى مستقبل مظلم نستطيع أن نلتمس مظاهره عند الكثير من الدول التي سبقتنا في هذا الخيار.
إلى صناع الميليشيات بكافة اشكالها وأنواعها، سواء كانت مزودة بالسلاح أو بأفكار طائفية ومذهبية نقول: كفوا عن المقامرة بمصير شعب إنتخبكم ووثق بكم حتى الثمالة، لا تكرّسوا مفهوم الولاء والخيانة المغلوط من خلال القمع والترهيب والقتل، نحن بلد الحريات والتنوع الثقافي والديني، ولا حياة لنا بدون ذلك. نحن على عتبة مئوية إعلان لبنان الكبير، حافظوا عليه كبيراً في رسالته ونقاء ثقافته وأحلام أجياله، وإلا سيلعنكم التاريخ مهما أمعنتم في تزويره.
لبنان ليس 10452 كلم مربع من الارض، بل هو كل مساحات الدنيا التي وطأتها أقدام أجدادنا وأبائنا، وحفروا فيها الكثير من الإنجازات، وإلى السكارى المرتاحين في أحضان الطائفية والمذهبية على حساب المواطنة الحقيقية، لقد أخذتم جرعة قاتلة فأبعدوا أولادكم وأحبابكم عن هذا الكأس.