#الثائر
كتب د. دريد سريوي
ها أنذا...
عابرٌ أشقُ سِتارَ الصمت، واستكشفُ مكنوناتَ الأسرار. أبحثُ بين القرى، أسيرُ في الطرق القديمة، وأُصغي إلى حكاياتٍ غابرة. وبخطى حثيثة أَمضِي بين أطلال المنازل والآثار المنسية، حاملاً معي شغفَ المعرفة وحنين العودة إلى الجذور. واليومَ أحطُ الرحالَ في ميمس.
فيا سيدة الوادي، ويا رافعة أعلامك الخضراء بين الهضاب. يا شوامخَ الصنوبر وبواسقَ الحور والكينا والزيتون المبارك. يا رواسخَ السنديانِ وأنصابَ التوت وكروم العنب والتين. يا بيادرَ الحصادِ وغلالَ الكروم. يا دروب الألفة والمحبة والسلام. يا بيوتَ الخير والبركة.
حدثيني...
حدثيني وارفعيني إلى علياء إيمانك، فقد جئتك مستعلماً. حدثيني عن الربيع وأغاني البلابل، عن الصيف وما تثمره الحقول، عن الخريف ونسائم تشرين، عن الشتاء والعواصف. حدثيني عن الأودية، حدثيني عن السُحب، حدثيني عن الليل والنهار.
حدثيني عن الست صالحة (صالحة نوير)، تلك البنت الفقيرة، يتمة الأبوين، شحيحة النظر، ثاقبة البصيرة، عامرة الإيمان، التي تسامت بروحها الطاهرة إلى مصَاف ِ الخيرين، فأكرمها أهالي القرية ببناء مقام، فصار اليوم مزاراً للقريب والبعيد...
حدثيني عن الشيخ الميمساني (أبو حسين سلوم العيسمي) ومدفنه المنسي بين المقابر... والشيخ أبو علي وهب... وعن الشيخ أبو حسين إبراهيم أبو حمدان...
فمن الآفاق البعيدة تُعيدني ذكريات قديمة، أفتح لها قلبي فتدخل بأمان. ثم تتحول أصواتها، بين ذراعي، إلى أصوات الناي والمزمار، ثم تسكن وتنام، تحت أجنحة السلام، وتُلطف حرارة الحب والجمال، فيبتهج لها فؤادي، ويرتفع رأسي ثناءً وحمداً.
أُمعِنُ النظرَ في تفاصيلك الجغرافية فتدهشني تلك الروائعُ الطبيعية، من القاطع إلى عين الحدث، من نهر الفاتر إلى أبو دجاجة، امتداداً إلى تلك القرى الوادعة فوق التلال من شويا، إلى عين قنيا، وعين ثنتا، وعين فجور، ولبايا، وقلايا، ومرج الزهور، والخلوات، والكفير، وحاصبيا...
وأعود مفتشاً في سجلات عائلاتك، عن أهل ورفاق وأصدقاء من آل بركات، جبور، حاطوم، الحداد، حَمِد، الأحمدية، الخطيب، الخوري، دربية، رعد، زغيب، سرييل، شاهين، صبح، صعب، صفا، الطرشا، عربيد، عزام، علامة، العيسمي، غانم، الفاخوري، ابو قنصور، ماضي، محلّا، مداح، مطاوع، معلاوي، نوير، أبو إبراهيم، أبو حمدان، أبو سعد، أبو سعيد، أبو شهلا، أبو عاصي، أبو العز، أبو فاعور.
أقرأ في تاريخك الذي لا ينفصل عن تاريخ وادي التيم. ففيه آثار شعوب العالم القديم، من الكنعانيين إلى الفينيقيين، واليونانيين، والرومانيين، والحمويين، والأيطوريين. كما تشير التوراة إلى واقع بلاد كنعان أثناء مجيء العبرانيين إليها في سِفْر القضاء. سكن بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين، والحثيين، والعموريين، والغرزيين، والحيويين، واليبوسيين، وبعض الأماكن تحمل أسماء تلك الشعوب القديمة. فكلمة حمى تعود إلى الحمويين، وأرض اليابسة إلى اليبوسيين، وعين الحدث إلى عين الحثيين. وبعد معركة على تلك العين تحول اسمها إلى عين الحدث، وعين طورا إلى عين الأيطوريين، وغير ذلك الكثير من الأسماء...
ومن المرجح أن اسم ميمس مشتق من الكلمة اليونانية "ميمز" أي القرية الصغيرة أو منطقة النجاحات، ومع الوقت حُرف الاسم إلى ميمس أي مكان الاحتفالات والأفراح لوجود ساحات واسعة في القرية بالقرب من الكنيسة في الحارة الفوقا وغيرها من الأماكن التي تبعث في النفس أملاً ورغبة وسعياً حثيثاً نحو الرقي والتقدم. فنجد من روادها للعلم والخير والتقوى والإيمان والمناصب الرفيعة... مَن ذَكَرهم التاريخ في بَوَاْطِنَ الكتب أمجاداً...
لا يستوقفني اسم حتى تتوالى أسماء، فأختصر وأعود متأملاً في كل حي من أحيائها، في كل شارع من شوارعها، حيث جَالَسَ البدرُ عرائسَ الأحلام. وصاغت الأماني نغمات الأفراح. وعانقت الهمسات أنفاس الطبيعة. ولاحق الجمال أجيالها. وتهامست النسمات في ربوعها. وحباني الله بجيرتها،
فيا رفيقة أيامي الماضية والحاضرة، لك ألف سلام وسلام...