#الثائر
العميد المتقاعد " دانيال الحداد ".
يوم الرابع والعشرين من شهر حزيران ٢٠٢٣، كان يوماً مفصلياً في تاريخ روسيا المعاصر.
التحليلات كثيرة، واللافت في بعضها الحديث عن وجود مؤامرة بين قائد مجموعة فاغنر يفغيني بريغوجين والمخابرات الأميركية لإسقاط النظام في روسيا مع وعدٍ له بتولّي السلطة في روسيا أو تقاضيه مليارات الدولارات في سبيل تنفيذ المخطّط المرسوم.
لا يمكننا الجزم بهذا المخطّط السرّي مع أنّ احتمال وجوده يبقى قائماً. لكنّ تسلسل الوقائع على الأرض يعطي فكرة واضحة عمّا جرى، فمنذ بضعة أشهر وبريغوجين يدأب على انتقاد الشخصيتين القويتين في موسكو، وهما وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو ،ورئيس هيئة الأركان فاليري غيراسيموف وصولاً إلى شتمهما المتعمّد عبر وسائل الإعلام وتخوينهما، وفي ذلك انتقادٌ مبطّن للرئيس بوتين شخصياً، لأنه هو صاحب القرار في اختيار هاتين الشخصيتين في المركزين المذكورين.
كانت ذريعة بريغوجين أنّ الذخائر لا تصل إلى قوات فاغنر بكمياتٍ كافية خلال معركة باخموت، ولو كان هذا الأمر دقيقاً، كيف استطاع السيطرة على المدينة وطرد ٧٠ الف مقاتل أوكراني منها كما زعم من دون ذخائر كافية ؟ ولنفترض أنّ هذا الأمر صحيح جزئياً ، فهل كان يستأهل تلك الضجّة الإعلامية، خصوصاً أنّ جبهة القتال الروسية - الأوكرانية هي بطول ١٥٠٠ كلم تقريباً وليس وحده في الميدان، وبالتالي من الطبيعي أن يحصل نقص في الذخائر بين الحين والآخر لبعض الوحدات العسكرية، وهذا ما حصل مراراً وتكراراً مع الوحدات العسكرية الأوكرانية، لكن لم نسمع عن حالات انتقاد اعلامية من قادتها العسكريين على غرار ما فعل بريغوجين.
يعد السيطرة على باخموت عبّر بريغوجين عن رغبته بالتوقف عن المشاركة في القتال لفترة أشهر لإراحة مقاتليه وإعادة تنظيم صفوفهم، وهو أمرٌ طبيعي بعد قتالٍ مرهقٍ استمرّ لثمانية أشهر، لكنّه سرعان ما استأنف الهجوم الإعلامي وبصورة يومية على وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان بأسلوب أكثر قساوة، ووصل به الأمر إلى تكذيبهما في ما يتعلّق بالتصدّي الروسي للهجوم الاوكراني المضاد، فبات كأنه بوقٌ إعلامي صارخ للقوات الأوكرانية يعمل على الحطّ من معنويات الجيش الروسي في الميدان، وهذا ما لم يحصل في تاريخ الحروب.
من هنا، أدركت القيادة العسكرية الروسية ومعها الرئيس بوتين أنّ أضرار استمرار مجموعة فاغنر في القتال بقيادة بريغوجين أصبحت أكبر من فوائدها، وبات من المؤكد أن بريغوجين الآتي من السجن ومن خلفية ميليشياوية وتجارية ومالية، لا يقاتل في سبيل مبادئ وقيم بل في سبيل السلطة والمال والمكاسب الشخصية، وأنه كان ينتظر مكافأته على النجاحات التي حقّقها في المعارك بتسلّم أعلى المناصب الرسمية في الدولة بدءاً من وزارة الدفاع.
الردّ على سلوك بريغوجين وطموحاته، تمثل بإهماله وعدم الطلب إليه مواصلة القتال، وفسخ عقود لوجستية بين ادارة شركته والجيش الروسي، وصولاً إلى إلزام عناصرها المقاتلين بتوقيع عقود التطوّع مع وزارة الدفاع لتصبح تحت إمرتها المباشرة.
مع هذه المستجدّات، وتمكّن القوات الروسية من صدّ الهجوم الأوكراني المضاد بفاعلية من دون الحاجة إلى فاغنر، ثارت ثائرة بريغوجين، وبدأ بتنفيذ خطّة الانقلاب على السلطة العسكرية والدولة، فدخلت قواته بسرعة الى مقاطعة روستوف على الحدود الروسية - الأوكرانية، وانتشرت في مركز قيادة العمليات الجنوبية والمطار وسائر المنشآت العسكرية، في حين أعطى الرئيس بوتين الذي علم مسبقاً بالتحرك أوامره للقوات الروسية بالتصرف بهدوء وعدم الاشتباك المسلح مع عناصر المجموعة، آملاً أن يعود بريغوجين إلى رشده، لكنّ الأخير بدأ يتوسع باتجاه مقاطعة موسكو، مدلياً بتصريحات خطيرة، شكّك فيها ولأول مرّة بأحقيّة الحرب التي تخوضها روسيا ضدّ أوكرانيا.
أمام هذه التطورات الدراماتيكية سارع الرئيس بوتين إلى إلقاء خطاب للأمة، اعتبر فيه أنّ روسيا تعرّضت لخيانة كبرى وطعنة في الظهر من قبل المتمرّدين في وقتٍ تواجه أشرس حملة غربية ضدّها ويتفانى جنودها على الجبهات، متوعداً بمحاسبة هؤلاء وقمعهم بقسوة، ليأتي ردّ بريغوجين سريعاً أنّ الرئيس أخطأ في توصيف جماعته بالخونة، وأنه سيكون لروسيا رئيس جديد، كاشفاً عن نيّاته الحقيقية بصورةٍ لا تقبل الجدل.
لقد راهن بريغوجين على حصول تظاهرات شعبية في العاصمة موسكو وسائر المدن الكبرى مؤيدة له، ووقوف قسمٍ من الجيش الروسي إلى جانبه، لكنه فوجئ في أثتاء تحركه بتذمّر الشعب منه وبالطبع الجيش الروسي وحتى انقلاب قسمٍ من مجموعة فاغنر ضدّه، وبالتالي بات يستحيل عليه الاستمرار في تنفيذ مخطّطه بعديد لا يتجاوز العشرة آلاف مقاتل، ما سيؤدي به إلى التدمير الشامل، فيما أعدّ الرئيس الروسي العدّة لقمع التمرّد من خلال محاصرته من الخلف في مقاطعة روستوف بالقوات الشيشانية ومن الأمام في موسكو بالحرس الوطني الذي يناهز عديده ال٧٠ ألفاً، مواصلاً استيعاب الموقف حتى اللحظة المناسبة، رغبةً منه بعدم إراقة دماء الشعب الروسي وإظهار روسيا بمشهد الحرب الأهلية باستثناء ضربات تحذيرية محدودة لقوافل المتمرّدين، أمّا قراره الأكيد في نهاية المطاف، فكان القضاء على المجموعة في غضون ساعات محدودة عند استنفاد جميع الوسائل السلمية.
لقد استحقّ بريغوجين الموقف وشعر بأنّ حياته أصبحت معدودة بالأيام والساعات، ليتلقّف اتصال رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو به، والذي عرض عليه الشروط الروسية لإنهاء الأزمة فوافق على الفور، إذ شكّل الاتفاق الذي قضى بانسحاب مجموعته إلى مواقعها في جمهورية لوهانسك الشعبية ولجوئه شخصياً الى بيلاروسيا بضمانة امنية من الرئيس بوتين، طوق نجاةٍ له من الهلاك المحتّم.
يبقى السؤال، هل كان انقلاب بريغوجين نتيجة تعاون مع المخابرات الغربية مع وعده بالسلطة والمال، أم طموحاً خاصاً به وجد اللحظة المناسبة لتحقيقه؟
في رأيي، الاحتمالات كلّها واردة، لكنّ الاحتمال وفق الوقائع التي سردتها هو الأرجح.
صحيح أنّ الحرب مسرحٌ للعنف، تحصل فيها انحرافات كثيرة، لكن لا يجوز أن تتخطى الخطوط الحمر وتتحول إلى نوعٍ من الخيانة الوطنية، فالمصلحة العليا للوطن تقتضي التنازل عن المصلحة الشخصية، وبريغوجين أثبت خلال مسيرته أنه شخصية نرجسية ومكيافيلية حتى الجنون.