#الثائر
ممّا لا شكّ فيه، أنّ الأزمة الاقتصادية والمالية التي عصفت بلبنان ولا تزال، هي وليدة عقود من السياسات الفاشلة التي انتهجتها الحكومات والمجالس النيابية المتعاقبة، وفي مقدّمها تثبيت سعر صرف الليرة قسراً أيّ من دون الاعتماد على عناصر اقتصادية حقيقية، أولها الإقتصاد المنتج، ثمّ الاستدانة المستمرّة لتغطية عجز الموازنات السنوية بفوائد فاحشة، ما تسبب بتنامي الدين العام إلى أرقامٍ قياسية، وإلزام القطاع المصرفي بشكل أو بآخر تأمين معظم هذا الدين.
إلى جانب ذلك، أتى النزوح السوري إلى لبنان بدءاً من العام ٢٠١١ ليزيد من تفاقم الأزمة، وهذا ما بدا واضحاً في تحوّل ميزان المدفوعات إلى سلبي اعتباراً من هذا العام بالتحديد، بفعل تضخّم فاتورة الاستيراد واستهلاك الموارد المحليّة بنسبة ٤٠٪ ، لتنفجر الأزمة في ١٧ تشرين العام ٢٠١٩ مع بدء تراجع قيمة الليرة، من دون وجود أيّ خطة سريعة وفاعلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لا بل كانت هناك أخطاء جسيمة في إدارة الأزمة، ضاعفت من صعوباتها وتعقيداتها.
فقي التاريخ المذكور أعلاه، كانت كتلة الودائع المدولرة في المصارف تعادل نحو ١٤٠ مليار دولار، يقابلها وجود ٤٠ مليار دولار في احتياط مصرف لبنان، ونحو ٥٠ مليار دولار ديون للمصارف في القطاع الخاص، وهذا يعني أنّه بمعزل عن ديون المصارف للمصرف المركزي والدولة وممتلكات المصارف، كانت الموجودات شبه الجاهزة لتغطية أموال المودعين تعادل ٦٤٪ من قيمتها، فيما أصبحت اليوم لا تزيد عن ١٥٪ في أفضل الأحوال، فكيف تبخّرت هذه الأموال؟
مع بدء انهيار الليرة ازدادت النقمة الشعبية على السلطة، فعمدت الأخيرة إلى امتصاص هذه النقمة بالاستمرار في دعم معظم السلع على سعر ١٥٠٠ل للدولار، هدر قسم منه في اعمال التهريب والتخزين والاحتكار، ما أدّى إلى خسارة المصرف المركزي نحو ٢٠ مليار دولار من احتياطه، كما فرض على المصارف قبول تسديد قروض القطاع الخاص بالدولار على سعر ١٥٠٠ل للدولار، ما أدى إلى خسارتها نحو ٣٥ مليار دولار، وهذه الخسائر كلّها هي فعلياً من حسابات أموال المودعين.
من جهة أخرى، أدّى عدم صدور قانون الكابيتال كونترول فور حصول الأزمة إلى إقدام النافذين من السلطة وبتواطؤ مع المصارف أو بعضها على تحويل ودائعهم أو قسم منها إلى الخارج والمقدّرة بنحو ١٠ مليارات دولار، وذلك بصورة استنسابية تخالف قاعدة العمومية والتجريد، التي تعتبر من أهمّ ركائز القانون.
ربّ قائلٍ إنّ دعم السلع كان لا مفرّ منه، فالشعب الذي ثار على استحداث ضريبة على خدمة الوتسآب لا تتعدّى البضعة دولارات، كان سيحرق الأخضر واليابس لو تمّ رفع الدعم في حينه، والجواب هنا، السلطة قيادة ومسؤولية وشجاعة وإلاّ لا لزوم لوجودها. ورب قائل أيضاً، إنّ هناك شريحة واسعة من المواطنين قد استدانت من المصارف بالدولار ولا تستطيع ردّ القروض بالعملة نفسها بعد انهيار القوّة الشرائية للرواتب. هذا الأمر صحيح جزئياً، لكن كان بالإمكان تجميد تسديد هذه القروض وإصدار قانون سريع برفع السرية المصرفية، وبالتالي معرفة حسابات أيّ شخص مدين في جميع المصارف، فمن استدان من مصرف ما بالدولار ولديه حساب في مصرف آخر، يلزم بتسديد قرضه من هذا الحساب، كما كان بالامكان معرفة ممتلكات كلّ شخص مدين للوقوف على حقيقة وضعه المالي، لأنّ معظم الذين استفادوا من تسديد قروضهم على سعر ١٥٠٠ل للدولار، هم من كبار تجار العقارات والمقاولين.
في الخلاصة الحكم رؤية، رؤية في استدراك الأزمات للحؤول دون وقوعها، ورؤية في سبل معالجتها إن حصلت، وهي في كلتا الحالتين شبه غائبة أو مغيّبة في لبنان.
العميد المتقاعد دانيال الحداد.