#الثائر
- " اكرم كمال سريوي "
منذ أن بدأت ملامح الأزمة الاقتصادية بالظهور في لبنان عام ١٩٨٣ وحتى اليوم، يتعاطى المسؤولون في الجمهورية اللبنانية بطريقة الدكنجي والبيع «بالمفرّق».
لم تُتخذ ولو مرة واحدة خطوات جدّية لإصلاح الاقتصاد الذي بدأ منذ ذاك الحين يتهاوى وتتهاوى معه قيمة العملة الوطنية، وحتى بعد انتهاء الحرب لم تكن هناك خطة متكاملة لبناء الاقتصاد. ولولا توسعة بعض الطرق الرئيسة والتي ما زالت تحتاج إلى الكثير ، وإعادة اعمار ما تهدم في وسط بيروت، لقلنا أن لبنان جُمّد كتمثال للحرب منذ عام ١٩٧٥.
كافة الأموال والقروض صُرفت في مشاريع غير مُنتجة، وكان يتم توزيعها لإرضاء هذا الزعيم أو ذاك، بمِنح وهِبات وسمسرات ذهبت كلها هدراً للمال العام، حتى انتفخت جيوب المسؤولين، فهبَّ عندها الموظفون والنقابيون والإعلاميون والأزلام كُلٌ يُطالب بحصته من غنائم القروض والخزينة .
وعمدت جمهورية الدكنجي إلى مُراضاة الجميع، فعندما يُضرب المعلمون يتم منحهم درجات استثنائية علاوة على الراتب، واذا غضب القضاة يتم منحهم مخصصات وصناديق خاصة، واذا طالب العسكريون فيتم استرضاؤهم على حِدة .
من دون أية دراسة مالية علمية تُوازن بين ايرادات الدولة ونفقاتها، ونسبة غلاء المعيشة ، ودون أي معايير واضحة وموحّدة لتحديد الأجور والرواتب في لبنان، أصبح هناك سلسلة رواتب خاصة لكل قطاع وظيفي في الدولة، وجاءت العطايا من دكنجي الجمهورية لكل على قدر صراخه وحاجة المسؤولين إليه.
لم يتم إنشاء أي مشروع منتج في لبنان يدرُّ أرباحاً حقيقية على الخزينة. لا أعيد استحداث سكك الحديد والقطارات، ولا إنشاء شبكة قطار الانفاق «المترو»، ولا تشجيع للصناعة، ولا معامل انتاج الكهرباء ولا تحديث المرافئ ولا إصلاح مصفاة النفط ، فكل ذلك كان مؤجلاً .
أما المشاريع التي تم صرف مليارات الدولارات عليها فكانت التكلفة أضعاف مضاعفة، بسبب السرقة والسمسرة والفساد،. من الطُرُق إلى المطار والمرفأ والكهرباء والجمعيات والصناديق ، كلها مؤسسات خاسرة لم تردّ التكلفة حتى الآن. أما الهاتف فما ادراك ما الهاتف ،وحجم التنفيعات، وأين وكيف تُصرف الأرباح.
مؤخراً عندما وقعت الدولة في العجز، ولتغطية التكلفة المستجدة لسلسلة الرتب والرواتب، والانتفاخ الحاصل في القطاع العام نتيجة التوظيف السياسي العشوائي، استسهلت الحكومة عملية طباعة النقد، فكان حجم السيولة بالعملة الوطنية منذ ثلاث سنوات بحدود عشرة آلاف مليار ليرة، أما اليوم فهو يُقدّر بنحو ٣٠ الف مليار ليرة.
فرح الموظفون بدايةً بحصولهم على رواتب جيدة، لكن تبين بسرعة أنها تفوق قدرة الخزينة، بحيث أصبحت مع خدمة الدين العام تستنفذ أكثر من ٧٠٪ من الموازنة السنوية، وشكّلت خدمة الدين العام وحدها ٤٤,٢٪ من مجموع الإيرادات. وهكذا انفجرت الأزمة مع أول عاصفة سياسية، وراح الدولار يُحلق حتى تآكلت رواتب الموظفين، وباتوا الآن يتحسّرون على أيام مضت، وبات الحد الأدنى للأجور في لبنان هو الأدنى في الدول العربية وحتى في دول العالم.
من جديد تعيد الجمهورية العمل بطريقة الدكنجي ومن دون أي خطة للإصلاح أو النهوض الاقتصادي. فيتم اقتراح إعطاء زيادات على الرواتب بالمفرق؛ اليوم للعسكر، وغداً القطاع الصحي، وبعده الأساتذة، ثم القضاة، ومظفو الإدارة، والمتقاعدون ، والسلك الخارجي، وغيرهم .
لا يحتاج الأمر إلى الكثير من الخبرة الاقتصادية، لمعرفة أن زيادة التضخم وطبع المزيد من العملة لتغطية تكاليف اقتراح وزير المالية السابق علي حسن خليل، سيؤدي إلى ارتفاع جديد في سعر الدولار، وغلاء في الاسعار، وسيلتهم ذلك أي زيادة للأجور، وسيزيد الفقراء فقراً والأزمة تفاقماً.
نعم هناك حاجة ملّحة لتسوية وضع الرواتب التي انهارت قيمتها أكثر من سبعة أضعاف، لكن الطريقة الفضلى ليست بالشعبوية والقرارات الهمايونية، بل بالسعي الجدي لتشكيل حكومة انقاذ وطني، تتخذ الإجراءات اللازمة للجم التدهور في سعر صرف الدولار ، وإعادة الاعتبار للعملة الوطنية، عبر مشاريع اصلاح حقيقي ،وإعادة الثقة بوجود دولة في لبنان، وإصلاح القطاع المصرفي، والكهرباء، واستعادة الثقة الدولية، وتحسين علاقات لبنان بالدول الصديقة، خاصة الدول العربية .
أما جمهورية الدكنجي فلن توصلنا سوى إلى النموذج الفنزويلي، وستُشكّل عملية زيادة التضخم وطبع المزيد من أوراق العملة، عملية انتحار اقتصادي، وستكون بمثابة الخطوة الأخيرة نحو الإفلاس .