#الثائر
- " د. منصور اشتي "**
يعاني لبنان، كما غيره من دول المشرق العربي، من فشل الأنظمة السياسية المتعاقبة في بناء الدولة الوطنيّة، وفي بناء مؤسسات تؤمِّن أبسط مقومات الحياة الكريمة للمواطن، من مؤسسات خدماتية وصحية وتعليمية وإقتصادية، (مع استثناء وحيد هو عهد فؤاد شهاب).
تكثر الدراسات والتحليلات والتساؤلات والمغالطات عن العوامل التي أدت الى ما وصلنا اليه من جوع وفقر وبطالة وفساد وفوضى وتحلل الدولة الوطنية، وتُجمِع معظم الكتب والبحوث والدراسات على وجود عوامل خارجية وأخرى داخلية كانت هي السبب وراء تخلف الدولة وفشلها.
وسنحاول التركيز في هذه المقالة على أحد الاسباب الداخلية، وهو تحكُّم النخب السياسية، وتبعية الجماهير لطوائفها، وللإقطاع السياسي والمالي.
يتحفنا كل يوم عشرات المسؤولين بكم هائل من الخطابات والمثاليات والمبادئ الانسانية والأخلاقية التي يتمتعون بها ويعملون بهديها، وفي الوقت ذاته يدّعون تطبيقها على انفسهم قبل غيرهم، ولكن أفعالهم تفضحهم، فما يقولونه لا يتوافق بتاتاً مع ما يقومون به فعلياً على ارض الواقع.
ليس مبالغة القول، ان جميع هؤلاء ومن مختلف المشارب والايديولوجيات يتشابهون في العديد من الصفات، بدءاً من حبهم للمال وتمسكهم بالسلطة والمراكز السياسية والإدارية، الى سعيهم الدائم لازاحة منافسيهم ومعارضيهم بشتى الأساليب والوسائل، الى وضع الأزلام والمحاسيب حولهم وفي مؤسسات الدولة العامة، وإبعاد أولئك الأحرار اصحاب المبادئ والكفاءات، الذين يأبون التبعية والإستعباد، أولئك المؤمنون بحرية الرأي والإنتقاد البنّاء والعدالة الإجتماعية والمساواة. والاكثر شيوعاً في هذه الأوقات هو، النفاق السياسي اليومي في تصريحاتهم ومواقفهم.
تتنوع النخب الحاكمة ما بين إقطاعية تقليدية، تحولت الى إقطاعية سياسية رأسمالية، وأخرى ثورية تحولت الى ديكتاتورية متسلطة شمولية.
فبعد ان وصلت تلك النخب الى السلطة، تنكرت للمبادئ التي كانت تنادي بها، وللناس التي آمنت بها، وتحولت الى ممارسة القمع والترهيب لمعارضيها، مانعة التداول السلمي للسلطة، ضاربة مبادئ الديموقراطية، مغلِّبة مصالحها الخاصة على المصلحة العامة، مستغلّة مؤسسات الدولة والتحريض الطائفي والمذهبي، لبقائها حاكمة، متحكِّمة بعقول ونفوس وولاء أتباعها ومناصريها.
والأخطر من ذلك هذه التعبئة الدينية التي تقوم بها بعض المؤسسات التربوية والإجتماعية الخاصة، عبر غسل أدمغة جيل الشباب بعصبيات دينية عازلة، بدل القيام بتنشئة وطنية من خلال زرع مبادئ المواطنة الجامعة، ومفاهيم الحريّة والخير والحق والمساواة والتسامح في نفوسهم.
تلك السياسات أدت الى تفتيت المجتمع، وتغليب الولاءات الفرعية الضيقة، والإنتماءات الإثنية والمناطقية على الإنتماء الوطني الرحب.
أما لناحية المجتمعات المشرقية، فما ان خرجت من تحت براثن الاستعمار، حتى استبدت بها أنظمة قهريّة، لا تؤمن بأبسط قواعد الديموقراطية وحرية الرأي والتعبير، فارتدت شعوب تلك المجتمعات نتيجة القمع والظلم وعدم المساواة، الى انتماءاتها الطائفية والمذهبية والمناطقية، والى الولاء للزعيم والحاكم الأوحد، فسارت في ظلمة فكرية ومعرفية حالكة السواد، تقودها عواطفها وغرائزها الدينية والعشائرية والمناطقية.
ورغم كل التجارب والأحداث، والتطور الفكري الإنساني والإجتماعي على مدى عقود، ما زالت المجتمعات المشرقية عاجزة عن التغيير في تبعيتها وولاءاتها، أو قيامها بالإصلاح المطلوب، الذي لن يأتي إلا عبر فرز نخب فكريّة، سياسية، إقتصادية، ثقافية واجتماعية جديدة وفاعلة، تؤمن بالحرية مساراً، والمساواة والعدالة نهجاً، وبالتقدمية فكراً، والعلمانية دولةً، وتؤمن بالإختلاف وبالحوار الهادئ والهادف، لتقريب كل ما هو جامع، وكل ما يعزّز بناء الدولة الوطنية، دولة العدل والرفاه.
فهل مجتمعاتنا مؤهلة لفرز هكذا نخب؟ وما هي الأولويات والآليات المطلوبة للوصول الى ذلك؟
**عقيد ركن متقاعد
الصورة من التواصل الاجتماعي
يُرجى الحفاظ على حقوق الملكية الفكرية عند نسخ أي شيء من مضمون الخبر وضرورة ذكر اسم موقع «الثائر» الالكتروني وإرفاقه برابط الخبر تحت طائلة الملاحقة القانونية.