#الثائر
- " د. ميشال الشمّاعي "
بدت لافتة عظة البطريرك الراعي أمس لما تركته من أصداء بين اللبنانيّين. بعض العقّال الذين يقرؤون في كلامه سلامًا وخيرًا وبركة للبنان تلقّفوا عظة الأمس بكلّ إيجابيّة، فيما قام بعض المسعورين بحملة شعواء على شخص البطريرك والبطريركيّة المارونيّة مستخدمين الثقافة التي ترّبوا عليها طيلة العقود الثلاثة. وهنا أساس الإشكاليّة التي تهدّد تماسك المجتمع اللبناني.
لا يتكلّم سيّد بكركي كلامًا طائفيًّا كما انبرى بعض العلمانويّين الذين نصّبوا أنفسهم قادة رأي في مجتمع 17 تشرين وراحوا ينعتونه بالطائفي والمذهبي عن غير وجه حقّ. ولا نلوم هؤلاء الذين تربّوا على ثقافة هدم المؤسّسات بحجّة العدالة الاجتماعيّة. ورأينا ماذا حدث في هذه المجتمعات في أوروبا. تدمّرت المؤسّسات وافتقر النّاس جميعهم، وانعدمت العدالة الاجتماعيّة. وبنهاية المطاف، سقطت هذه الأنظمة.
لقد ميّز البطريرك بين الديانة والطّائفة. " فالديانة هي العنصر الروحي الإيماني، أما الطائفة فهي الوجه الإجتماعي والتنظيمي لأتباع هذه أو تلك من الديانات." وهذا ما لا يريد فهمه هؤلاء الذين ورثوا أفكار اليسارويّة عن المجتمعات التي سقطت في أوروبا والعالم أجمع. وبعضهم جنح نحو الإلحاد المطلق. وهذا خيار نحترمه لكن لا يمكن لهؤلاء تكفير غيرهم من المؤمنين. ولا سيّما في الثقافة الوطنيّة لأنه بحسب ما قال غبطته: "هذا التمييز هو في أساس فصل الدين عن الدولة في لبنان، والثقافة اللبنانية وفلسفة الميثاق الوطني والدستور. وهو في جوهر الكيان اللبناني والنظام وحياد لبنان الإيجابي الناشط."
وهنا يتّضح بأنّ هؤلاء كلّهم باتوا خارج الثقافة اللبنانيّة ويدمّرون جيلا جديدًا يسير خلف طروحاتهم على قاعدة أنّها "موضة العصر". وبالتّالي يضربون الأسس التي قامت عليها الفلسفة اللبنانيّة منذ زمن ميشال شيحا وحتّى زمن كميل شمعون وشارل مالك والإمام موسى الصدر والمفتي حسن خالد. وهذا ما سيؤدّي إن نجح هؤلاء بفضل جهل بعض مَن يسايرونهم، إلى تدمير الكيان اللبناني، ويجعل من لبنان أتّونًا يحترقون فيه، ويحرقون معهم الهويّة الكيانيّة لهذا الوطن.
فيما بعض مَن تربّوا على ثقافة توأمة السلاح مع الكرامة الانسانيّة، غاظهم كيف تحدّث غبطته عن إشعال جبهة الجنوب في هذا الظرف. لكنّهم لم يسمعوا إدانة غبطته لخروقات العدوّ الاسرائيلي بقوله: "ندين الخروقات الإسرائيلية الدورية على جنوب لبنان، وانتهاك القرار الدولي 1701". فهم اعتادوا على قولة: لا إله فقط، إذا ما كانت هذه المقولة تخدم مشروعهم الاستراتيجي.
وصّبوا جام غضبهم كيف قال غبطته: " نشجب أيضا تسخين الأجواء في المناطق الحدودية انطلاقًا من القرى السكنية ومحيطها." فانهالوا بأشنع صفات العمالة والتخوين. وهذا ليس مستغربًا على مجتمعٍ رهن نفسه بالكامل لحزب، الذي جعله عميلا لإيران، ليس لأنّه يأخذ منها السلاح فقط، بل لأنّه حمل مشروعها الأيديولوجي. ويهتّون بعض الأحزاب المسيحيّة التي اشترت بأموالها الخاصّة الأسلحة من العدو الإسرائيلي يوم قرّروا هم والفلسطيني والسوري والإيراني ذبح المجتمع المسيحي بأكمله في زمن الحرب البغيضة. فعلى الأقلّ، لم يحمل المسيحيّون أيّ مشروع أيديولوجي يهودي كما حملوا هم مشروع ولاية الفقيه. ولا يتنطّح أحد ويقول أنّ المسيحيّة هي بنت اليهوديّة. أسياد العمالة الأيديولوجيّة لا يحقّ لهم نعت مَن دفع ماله ليشتري سلاحًا بالعميل ولا مَن ينتقد خطّهم السياسي بالتخوين. وهو يأخذون السلاح والصواريخ والدولارات هبات من إيران.
وهؤلاء أنفسهم هالهم كيف خاطبهم غبطته بالقانون، وهم أسياد الفتاوى الشرعيّة، لا يفقهون ولا يخضعون لأيّ قانون. فقال غبطته:" إننا لا يمكننا القبول، بحكم المساواة أمام القانون بإقدام فريق على تقرير السلم والحرب خارج قرار الشرعية والقرار الوطني المنوط بثلثي أعضاء الحكومة وفقا للمادة 65، عدد 5 من الدستور. صحيح أن لبنان لم يوقع سلاما مع إسرائيل، لكن الصحيح أيضا أن لبنان لم يقرّر الحرب معها، بل هو ملتزم رسميا بهدنة 1949." أن يقول الحقيقة ممنوع. أن القرار خارج الدّولة مسموح. مشروعهم في الخروج من الدّولة وتغليب الدّويلة مع حلفائهم المار ميخائيليّين أسقط الدّولة بضربات الإفلاس والإنعزال والفساد. فباتوا هم الإنعزاليّون والفاسدون لكنّهم أفلسوا الكلّ.
نردّد مع غبطته:"نريد أن ننتهي من المنطق العسكري والحرب واعتماد منطق السلام ومصلحة لبنان وجميع اللبنانيين." وفي ذلك جوهر بقاؤنا وطنًا واحدًا سيّدًا حرًّا مستقلًّا. ماذا وإلا فهؤلاء جميعهم يسعون لتدمير الوطن ليبنوا منه أوطانًا على مقاسهم الأيديولوجي. وهذا ما نرفضه مع بكركي والبطريرك الرّاعي، لا لنبني وطنًا قوميًّا للمسيحيّين. فنحن الذين رفضنا جمهوريّة مارونستان من كفرشيما إلى المدفون، ونحن الذين أعدنا أمانة المؤسّسات التي حافظنا عليها لنبني دولة ما بعد الطّائف. الدّولة التي طُعِنَّا بها من خلال التطبيق المعتوِر للدستور.
إن لم نعالج كلبنانيّين مجتمعين الإشكاليّة الثقافيّة بيننا عبثًا نحاول الحفاظ على إرث الأجداد. المطلوب من الذين جنحوا بثقافتهم خارج الهويّة اللبنانيّة أن يعودوا إلى أصالتهم أو فليبحثوا لهم عن هويّة تشبههم لا أن يغيّروا الهويّة الكيانيّة اللبنانيّة. ونحن لن نسكتَ. ومَن له أذنان للسّماع ... فليسمع !