#الثائر
كتب المحامي " كميل طانيوس " يقول:
في كل أصقاع الدنيا، يقوم الحكم السليم على مبدأ تحمل المسؤولية، ويعتبر الحاكم مسؤولاً عن كل ما يحدث اثناء حكمه ويتحمل التبعة عنه من دون تنصل او تنكر،
فيستقيل رئيس البلاد جراء حدث جلل يقع ابان رئاسته، ويستعفي رئيس الحكومة عن حادث يطرأ أثناء ولايته، ويستقيل الوزير عن فعل يخضع لسلطته، ويُقال رئيس الشرطة عن خطأ يأتيه رجل أمن يعمل تحت امرته، ويعفى وزير النقل عن حادث قطار، ويتحملون المسؤولية عمّا حصل،
اما عندنا في لبنان، فثمة نمط مستجد من انماط الحكم لم نشهد له مثيلاً من قبل، يقوم على مبدأ التنصل من المسؤولية والاستعفاء من التبعة ورمي المسؤولية على الغير، وينذر بتفكك الدولة وانحلال المؤسسات وانهيار الهيكل على رؤوس الجميع،
فترى رئيس البلاد يطلع على الناس بعد انفجار فجّر معظم العاصمة ودمّر شريانها الحيوي وبوابتها المفتوحة على العالم، واتى على معظم مؤسساتها التربوية والاستشفائية والاقتصادية وواجهتها البحرية ومعالمها التاريخية، ليقول لهم " انا مش مسؤول"، ثم يطل عليهم بمناسبة او من دونها ليبشّرهم بقرب الوصول الى ابواب جهنم التي عبّد طريقها بنفسه، بدلاً من مدّهم بجرعة ولو واهية من الأمل ،
ورئيس الحكومة ينأى بنفسه عما يحصل ويتعامل مع الانهيار الشامل المقبل علينا كسيل حطّ من علٍّ والارتطام المندفع الينا ككرةٍ من ثلج، كما لو كان الأمر يحدث في بلاد الغال،
ويطالعك صاحب اكبر كتلة نيابية ووزارية قابضة على عنق البلاد والعباد وممسكة بمزاريب الهدر والفساد، في مشهد يذكّر بالصهر كوبليان، ليرمي بالتبعة على الآخرين ويقود حملة صليبية على الخصوم، قبل ان يفتح ادراجه القديمة ليخرج منها كل الاوراق النتنة التي مر عليها اكثر من ثلاثين سنة حين كان شابا يافعا يبحث عن خيمة يلتجىء فيها او مظلةٍ يستظل فيئها أو موجة يعتلي متنها، وينثرها امامه على الطاولة قاصداً الاستعفاء من كل مسؤولية والقاء التبعة على سواه، ساحباً سجادته العجمية من تحت اقدام من يشاء، وباسطاً عباءته على اكتاف من يشاء، في محاولة باتت نهجاً مألوفاً لشق الصفوف وتفريق الاعداء وتبديد النقمة والاستثمار في العصبيات والاحقاد ونبش القبور، من دون أن يوفر في محاضرته عن العفة صليباً او هلال،
قبل ان تسدل الستارة على مشهد يظهر فيه من خلف الجموع المنقسمة بين مغتبط ومشفق وناقم ، رجل من الأتباع وفّر على نفسه عناء الظهور، يرتدي ابتسامة صفراء على وجهه ويحمل سلاحاً مذخراً بين يديه، ليصفق له بكل قوته ومن كل قلبه،
ثم يطل بعد ذلك في مشهدٍ اخير ، رجل حكيم بدا من سحنته انه ابن خلدون، وقد ارتسمت على وجهه علامات اليأس والإشفاق، ليعلن على الجمهور المحتشد انتظاراً للخاتمة الوشيكة بصوت جهوري واثق :
" ان الجيل الاخير الذي تسقط في عهده الدول وتنهار الحضارات، هو جيل النخبة الحاكمة التي تحرص في سلوكها السياسي والاخلاقي على الطمع والترف وينتقل الشعور بالمسؤولية السياسية والاجتماعية والعسكرية والاقتصادية التي تقلدوها منذ زمن التأسيس الى شعور آخر، الى نخبة تدوس الجميع من اجل مصالحها الخاصة وترفها الزائد ورفاهيتها... بل انهم مع هذا يحاولون اظهار القوة من خلال احتكار السلاح والجيش وذلك لقمع الناس اذا ارادوا الثورة ومواجهة استئثار هذه النخبة الحاكمة للسلطة والثروة ... ولا تجد هذه النخبة المترفة المثقلة بالمال والدعة والقوة المسلحة امام الجماهير المطالبة بحقوقها اذا خرجوا ناقمين على هذا الظلم والاستئثار، الا طلب الدعم من القوى الخارجية التي تجد بدورها في مثل هذه الانظمة، مصلحةً سياسية باستمرارها وبقائها وقهرها لشعوبها، فإذا قامت الثورة عليهم... فيحتاج صاحب الدولة حينئذ الى الاستظهار بسواهم من اجل النجدة ويستكثر من الموالي ويصطنع من يغني من اهل الدولة بعض الغناء، حتى يتأذن الله بانقراضها، فتذهب الدولة بما حملت".