#الثائر
كتب رئيس التحرير اكرم كمال سريوي -
جاء لافتاً كشف الإدارة الأمريكية عن ما أسمته الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأمريكي، الذي حددت فيه الخطوط العريضة للسياسة الأمريكية المقبلة في العالم. فمن المعروف أن الخطط الاستراتيجية للدولة تكون دائماً ذات طابع سرّي للغاية، فلماذ كشفت إدارة بايدن عن هذه الوثيقة ؟
إن من يتوهّم أن هذه هي الخطة الاستراتيجية الأمريكية الحقيقية، فهو يقع في خطأ كبير من حيث الشكل والمضمون. فما أُعلن عنه ليس سوى رسالة إلى الأعداء والأصدقاء في الداخل والخارج ، وهي تُشبه العمل التسويقي للإدارة الجديدة المستولدة من زمن الحرب الباردة، حيث كما ظهر من علاماتها، أن الرئيس بايدن لم يتمكن من التخلص من ذهنية تلك المرحلة الراسخة في أعماقه، ونشوة النصر الأمريكي بتفكيك إمبراطورية الاتحاد السوفياتي، عن طريق الحرب الدبلوماسية والإعلامية، دون إطلاق رصاصة واحدة.
٢٤ صفحة ورد فيها ذكر المارد الصيني ١٨ مرة، مما يدل على حجم التخوف الأمريكي من هذه القوة الصاعدة، التي باتت تملك المقومات الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية وكذلك التقنيات اللازمة والجاهزة كلها ، للتوظيف في معركة المنافسة والسباق، للسيطرة وقيادة العالم .
«على أمريكا أن تُشكّل مستقبل العالم» هذا العبارة الأهم في التقرير. فالرئيس بايدن يؤمن بقوة أمريكا وزعامتها الوحيدة ولا يريد شركاء في قيادة العالم ، وعلى الدول الأُخرى أن تختار، إمّا أن تكون تابعة وملحقة بالقرار الأمريكي، وإمّا تُصنف في خانة الأخصام، مع ما يتبع ذلك من عقوبات وضغوطات ومحاولات إخضاع .
روسيا المنافس العسكري الأول، ورد ذكرها في الوثيقة الأمريكية ٦ مرات . فهي الدولة الوحيدة القادرة على مواجهة أمريكا عسكرياً في الوقت الحالي، وهي تُعيق بالقوة تنفيذ المخطات الأمريكية، كما حدث في سوريا مثلا. ولقد فشلت محاولات تطويقها في جورجيا وأوكرانيا، والأسوأ من ذلك أنها باتت تُصدر السلاح إلى حلفاء أمريكا التقليديين، كتركيا والهند وبعض الدول العربية.
لم يذكر التقرير دول الشرق الأوسط سوى من باب الالتزام بأمن إسرائيل، وما تشكّله إيران من تهديد لهذا الأمن. أمّا للدول العربية فالرسالة واضحة، لستم في سلم أولويات أمريكا، وسيتم تخفيض القوات العسكرية في الشرق الأوسط . ولكن كون القيادات العسكرية الأمريكية غير موافقة على ما يبدو على خطة الانسحاب هذه ، تم ذكر كلمة «الاحتفاظ بقوات كافية لحماية مصالح الولايات المتحدة وحلفائها» ، مما يترك الباب مفتوحاً لحجم هذه القوات ، خاصة أن التقرير لم يستبعد فرضية التدخل العسكري، ولو أنه اعتبرها كخيار أخير.
مزيداً من القوات العسكرية الأمريكية إلى المحيط الهادئ والمحيط الهندي ،وأوروبا، وهذا بمثابة إعلان حرب على روسيا والصين. ولكن التقرير المح أيضاً إلى تجنّب الدخول في حروب طويلة الأمد، تُكلّف أمريكا ترليونات الدولارات، وأوضح أن إدارة بايدن ستزيد التمويل لدعم نشر الديمقراطية، مما يعني اتّباع استراتيجية الحرب بالواسطة، فنشر الديمقراطية وفقاً للمفهوم الأمريكي، تعني دعم المعارضين في الدول غير المطيعة، كالصين وروسيا وايران وسوريا وغيرها، وجعل هؤلاء المعارضين يقومون بمهمة زعزعة دولهم من الداخل .
في المحصلة إن هذا التقرير مؤقت ، ولذا وهو قابل للتبديل في أي لحظة ، ولكنه أوضح نية الإدارة الأمريكية، في التركيز على استعادة دور قيادة العالم ، كما كانت في مرحلة التسعينات، والتركيز على تحطيم روسيا والصين، وعدم تقبّل فكرة تعدد الأقطاب والمشاركة ، فوحدها الولايات المتحدة الأمريكية سترسم مستقبل العالم. وهذا طبعاً ما لن تتقبله لا روسيا ولا الصين ، مما يُنذر بانطلاق سباق تسلّح جديد في العالم، والعودة إلى أجواء الحرب الباردة بين الكبار، دون أن يمنع ذلك اندلاعها الحارق في عدة دول صغيرة وأماكن ساخنة من العالم .