#الثائر
د. عبير الرحباني
إن حياة العظماء من الرجال تذكرّنا دائماً بأن نجعل من حياتنا شيئاً عظيماً وأن نترك أثناء عملنا آثارنا على رمال الزمن.
الرابع من كانون الثاني 2021 ودعنا عملاقاً من عمالقة الفن العربي.. اليوم فقد الوسط الفني اللبناني والعالم العربي أحد عملاقة وأعمدة الفن العربي الأصيل .. الا وهو الموسيقار اللبناني الكبير الياس الرحباني الذي يعتبر الشقيق الثالث بعد الراحلين الأخوين عاصي ومنصور الرحباني حيث كان رحيله اليوم مؤثراً في نفوسنا.
وليست وحدها عائلة الرحابنة التي فقدت اليوم أحد كبار أعمدتها فحسب، بل العالم العربي والغربي ايضاً.
وانا اكتب هذا النص يتراءى لي ارتعاش قلوب من أحبوك.. وتتراءى لي وجوه أحبتك.. وأعين بكتك.. وقلوب فقدتك .. فانا لا اعرف ما هو الموت لكنني اعرف طقوسه جيداً.. أعلم كيف يذبح فراغُ الأمكنة ..وأعلم كيف يستيقظُ في ذاكرتنا فنهم الاصيل .. وكيف تصحوا في أعيينا صورهم الابداعية من فن وأدب وفلسفة وموسيقى .. وأعلم كيف تأتي صباحات بداية السنة الجديدة بعد رحيلهم .. وكيف تأتي الليالي مثقلة بتفاصيلهم وأعلم كيف يموت الأحياء خلف الأموات بلا موت.
فالألم الكبير يا عملاق الفن العربي ليس نبأ موتك.. ولا السير خلف جثمانك.. ولا الصلاة مع المصلين على روحك .. لكن الألم الأكبر يبدأ بعد انقضاء قدر الموت .. وبعد انتهاء المراسم وفض الجمع .. والألم الاكبر هو فراغ الأمكنة .. وفراغ المسرح الرحباني من بعدك .. فراغ مدرسة الرحابنة من بعدك .. الألم الاكبر هو بكاء كتبك ودفاترك واقلامك .. والالات الموسيقية.. وحزن مسرحك .. وانفاسك.. وصوتك وصورك ..وانتظارنا لأعمالك بلهفة ..
اليوم فقدت مدرسة الرحباني أحد كبار أعمدتها .. هذه المدرسة التي كان لها عميق الاثر في ترسيخ وطن صادق بتغييرهم للكلمة الجميلة.. ونقل الاغنية العربية من حال الى حال.. هذه المدرسة التي ما زالت الجوهرة الماسية التي تتصدر الفن العربي بأصالتها .. التي لم تبخل يوماً على إمتاع الأذن والنفس البشرية بالكلمات والموسيقى واللحن الجميل..
فأنت ايها العملاق الكبير هل كنت تعلم قبل ان ترحل ان فراغ العمالقة مُخيف لانه يأتي دائماً بحجم حضورهم ؟ وان في حضورك ورحيلك رهبة وهيبة تستشعرها القلوب المحيطة بك .. وان لغيابك مرارة القلوب.. فانت من العملاقة الذين منحهم الله من الابداع والموهبة والهيبة وحب الناس ما يجعلنا نرتعب عند رحيلهم..
فأنت يا الياس لم تولد عملاقاً.. لكن تميزك وابداعك الفني وحبك واخلاصك لوطنك لبنان ..واخلاصك ووفاؤك لعملك.. وعطاؤك المستمر الذي لم يتوقف.. والذي كان للفن من اجل الحياة، وللحياة من اجل الوطن ومن اجل المستقبل.. وتواضعك وثروتك الهائلة في جمع رصيد من حب الناس والأصدقاء هو الذي جعل منك عملاقاً يتضخم في أعيننا حد العمّلقة.
فلا يستطيع المرء أن يعطي عطاءً عميقاً فلا بد للفنان من أن تلفحه رياح الفلسفة وان يعرف التاريخ جيداً لأنه خارج الإيمان لا يوجد شعر ولا موسيقى.. فحياة العظماء من الرجال تذكرنا بان نجعل من حياتنا شيئاً عظيماً .. وأن نترك اثناء رحلتنا آثارنا على رمال الزمن.
نعزي أنفسنا وعائلتي "الرحباني" اينما وجدت في لبنان وفي أرجاء هذا العالم. وتعزيتي الثانية أقدمها للوسط الفني اللبناني ولكل الذين تخرجوا من مدرسة الرحابنة على يد الاخوين عاصي ومنصور والاخ الثالث الذي فقده الوطن العربي اليوم "الياس الرحباني"
فها أنت ترحل يا الياس لكن المسرح الرحباني باقٍ ولن يموت ومدرسة الرحابنة باقية ولن تموت .. وبصماتك ايها العملاق الكبير وبصمات اخويك من قبلك ما زلت وستبقى في هذه المدرسة ترددها الاجيال جيلاً بعد جيل .. وستبقى مدرسة الرحابنة تقف قوية على صخرة الفن لا على رماله بهيبتها وأصالتها ..
وما تركته مدرسة الرحابنة من إرث تاريخي وما تركته بصمات الاخوين عاصي ومنصور وأنت يا الياس رحمكم الله سيحفظ للاجيال اللاحقة وستبقى مدرسة الرحابنة والفن الرحباني في ذاكرة الشعوب العربية.
رحمك الله يا الياس لتكون بالقرب من الراحلين الشقيقين عاصي ومنصور الرحباني.
المصدر: وكالة عمون