#الثائر
بقلم العميد الركن الدكتور رياض شـيّا **
تعرض لبنان في مسيرة وجوده الى كثير من التجارب والاختبارات، منذ إعلانه كدولة في العام 1920 ولغاية يومنا هذا. فبالإضافة إلى هموم وحدته الوطنية، الناتجة أساساً عن التنوع الثقافي والديني الذي يتكون منه نسيجه الاجتماعي، إلى هموم السلطة وكيفية ممارستها وبؤسها المستشري، وصولاً إلى مأساته الدائمة مع حدوده، ولا سيّما الجنوبية منها، برّاً وبحراً.
وإذا كانت رقعة الأرض هي أحد عناصر تكوّن الدولة، فإنّ الحدود هي التي تفصل بين الدول وتحفظ كياناتها واستقلالها وثرواتها، كما تحفظ السيادة كصفة مرافقة للدولة. واحترام هذه الحدود يحدّ من النزاعات الإقليمية، ويسهم في حفظ الأمن والسلام الدوليين اللذين يمثلان أول أهداف المجتمع الدولي اليوم، بعد معاناته الطويلة مع الحروب والنزاعات بين الدول، وبعد الأثمان الباهظة التي دُفعت بسبب شهوة السيطرة والتنافس واستعمار الشعوب واستغلال ثرواتها الوطنية. من هنا كانت الحدود مصدر قلق دائم للدول الصغيرة والضعيفة، أو تلك التي يقوم في جوارها دول تأسست على التوسع والعدوان واغتصاب الحقوق، كما هو حال لبنان مع الكيان الصهيوني الغاصب الذي قام على التراب العربي الفلسطيني في العام 1948.
ولمّا كان ترسيم الحدود بين الدول يشكّل الأداة القانونية الفضلى وفقاً لمبادئ ومعايير القانون الدولي في حل النزاعات الإقليمية، وذلك منعاً للتعديات وحفظاً للحقوق وللأمن والاستقرار، فإنّ للبنان تجارب طويلة ومستمرة في هذا الشأن. إذ أنّ مسألة الحفاظ على حدوده البرية، كما على حدوده البحرية، وهي المطروحة اليوم في المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل، عرفت الكثير من التقلبات، وشهدت الحدود الاعتداءات المستمرة، فحرمت المنطقة الجنوبية وسكانها من الاستقرار والهدوء والتنمية.
ومن هذا المنطلق، ستكون حدود لبنان الجنوبية، برّاً وبحراً، موضوع بحثنا هذا، فنعرض لمختلف المراحل التي مرّ بها ترسيم هذه الحدود، كما سنلقي الضوء أيضاً على النزاع اللبناني - الإسرائيلي القائم في مسألة ترسيم الحدود البحرية.
I - ترسيم الحدود زمن الانتداب:
إنّ المرة الأولى التي جرى فيها ترسيم حدود لبنان الجنوبية كانت في بداية عهد الانتداب. فبعد هزيمة الدولة العثمانية واحتلال البلاد العربية خلال الحرب العالمية الأولى من قبل بريطانيا وفرنسا، وبناءً على اتفاق سايكس – بيكو الموقّع في العام 1916 بين هاتين الدولتين (بالإضافة الى حليفتهما روسيا)، أصبح لبنان وسوريا تحت الانتداب الفرنسي، أمّا فلسطين والأردن والعراق فقد أصبحوا تحت الانتداب البريطاني. وفي 23 كانون الأول1920 اتفقت دولتا الانتداب على تنظيم شؤون الحدود والمياه وسكك الحديد وما اليها من شؤون تربط مناطق الانتداب؛ وبناءً عليه كُلفت لجنة مشتركة بترسيم الحدود بين فلسطين من جهة ولبنان وسوريا من جهة ثانية، سميت اللجنة "بوليه - نيوكومب" بإسمي ممثلَيهما – الضابطين: بوليه Paulet ونيوكومب Newcomb.
بدأت لجنة بوليه - نيوكومب عملها على الأرض في أوائل حزيران 1921 وانتهت بتوقيع "التقرير الختامي لتثبيت الحدود بين لبنان وسوريا من جهة وفلسطين من جهة أخرى" في 3 شباط 1922. وفي 7 أذار 1923، تبادلت دولتا الانتداب مذكرة اتفاق بوليه – نيوكومب وأصبح الترسيم معمولاً به اعتباراً من 10 أذار 1923، ليجري بعدها تسجيل وثيقة الاتفاق في عصبة الأمم بتاريخ 6 شباط 1924 وأصبح لها طابعاً دولياً. والقرارات الدولية التي تشير الى حدود لبنان الدولية في الجنوب، إنّما تقصد الحدود التي عينتها اتفاقية بوليه – نيوكومب.
تضمنت الاتفاقية تحديد وتعيين 71 نقطة فصل على الخط الحدودي، 38 نقطة منها في الحدود اللبنانية – الفلسطينية تبدأ برأس الناقورة وتنتهي بمرتفع واقع على مسافة مئة متر جنوبي طريق المطلة – بانياس مروراً بالجسر الروماني القديم على نهر الحاصباني. أمّا الحدود السورية – الفلسطينية فتبدأ بالنقطة 38 التي تنتهي بها الحدود اللبنانية-الفلسطينية وصولاً الى النقطة 71 في الحمّة عند وادي اليرموك الأسفل.
وهكذا فإنّ اتفاق بوليه - نيوكومب، بالإضافة الى تثبيت الحدود الجنوبية للبنان وترسيمها على الأرض، قد أعطى هذه الحدود شرعية دولية هي في غاية الأهمية لجهة الاعتراف الضمني بدولة لبنان المعلنة يومها حديثاً، والاعتراف بسيادة هذه الدولة على حدودها. كما سيكون للاتفاقية مفاعيل هامة في السنوات التي أعقبت توقيعها ولغاية يومنا هذا، وستظهر هذه الأهمية بشكل خاص بعد قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، والذي سنبيّنه في الفقرة التي ستلي. إلاّ أنه برغم هذه الإيجابيات، فإنّ اتفاقية بوليه - نيوكومب تركت أيضاً بعض النتائج السلبية، قد يكون من أهمها ضم بعض القرى اللبنانية الى الأراضي الفلسطينية وعددها سبعة، وهي: طربيخا، صلحا، المالكية، قَدَس، النبي يوشع، هونين، وإبل القمح. وهذه القرى منتشرة اليوم على الجانب الفلسطيني من الحدود، وأُقيم عليها عدد من المستعمرات الإسرائيلية، وتحتل مواقع استراتيجية هامة كونها تشرف على الأراضي الفلسطينية والطرق التي تربط بينها، ولا سيّما إشراف بعضها على إصبع الجليل، فيما نزح العدد الأكبر من سكانها الى القرى اللبنانية المجاورة وغيرها من المناطق اللبنانية.
وهكذا فقد كان اتفاق بوليه - نيوكومب الترسيم الأول للحدود اللبنانية الجنوبية، أما الترسيم الثاني فسيتم في العام 1949 بعد توقيع اتفاقية الهدنة اللبنانية – الإسرائيلية.
====================================== (يتبع)
**(أستاذ جامعي وباحث في القانون الدولي)