#الثائر
- " د. ميشال الشمّاعي "
إنّ وجود إسرائيل هو من الأساس مرفوض من قبل مَن عُرِفَ بمحور الممانعة والمقاومة حيث نصّب هؤلاء أنفسهم بالمحاربين لهذا الكيان الغاصب حتّى زواله من الوجود بالمطلق، كما يدّعون في أدبيّاتهم السياسيّة. ونجح هذا المحور في خلق واقع وجداني في أذهان أكثر من 18 جيل ونيّف حتّى باتت حقيقة حتميّة بنظر هذه الشّعوب مجتمعة. مع تمايز في هذا الواقع التاريخي، بحيث استطاعوا التمييز بين زوال إسرائيل وزوال اليهود. فصوّروا هذين الزوالين بطريقة منفصلة بحيث لا يعني الأوّل تحقيق الآخر. وذلك ليحفظوا لهم بابًا للانتصار الموعود. لا إسرائيل زالت ولا هم انتصروا.
واليوم بعدما استطاع حزب الله اللبناني حصر مقاومة إسرائيل به وحده منذ منتصف ثمانينيّات القرن الماضي، وبعدما استنفذ وسائل الضغط كلّها حتّى باتت الدّولة اللبنانيّة بالكامل تحت سيطرته عبر دعم الفريق المسيحي له في اتّفاق 6 شباط 2006، أي التيار الحرّ، ولا سيّما بعد انقلاب السابع من أيّار 2008، وبعد توصّله إلى مرحلة لا يستطيع فيها اقتلاع إسرائيل أو محوها من الوجود، وبعد استنفاذ وسائل سيطرته السياسيّة كلّها ونحوّله أداة ضغط بيد أوليائه في إيران، وبعدما تيقّن الحزب من تخلّي داعمي إيران، أي الرّوس، عنها، وبعد تخليهما معًا عن دعم الأرمن في مواجهتهم مع الأذريين، وبعد إدراكه أنّه لن يستطيع مواجهة العقوبات الدّوليّة إلى ما لا نهاية؛ لهذه الأسباب كلّها حاول قلب الطّاولة مستخدمًا الدّهاء الديبلوماسي الفارسي بشراء الوقت لتسجيل خرق دولي ما من خلال التّفاوض مع إسرائيل.
ويأتي هذا التفاوض على خلفيّة ملفّ ترسيم الحدود البحريّة تلازمًا مع الحدود البريّة حيث يبقى باعتقاد الحزب أنه يستطيع سحب فتيل الحصار الذي يواجهه متجاوزًا بذلك تضحيات بيئته الحاضنة كلّه. ولم يصدر منه بعد حتّى هذه اللحظة أيّ موقف واضح في هذا المجال، بل بدا الرّئيس برّي الآمر النّاهي في الموضوع مستغلا غياب الحكومة ومغيّبًا الركن الأوّل من السلطة التنفيذيّة، أي رئاسة الجمهوريّة. وفي ذلك رسالة سياسيّة واضحة إلى الدّاخل اللبناني مفادها أنّ الأمر اليوم أصبح لنا، أي للحزب وللحركة. أمّا المجتمع الدّولي فلا يهمّه إلا كسر هذا الجمود في منطقة الشرق الأوسط الذي ناهز العقود الثمانية.
لكن ما فات المكوّن اللبناني المفاوِض أنّ هذه المفاوضات ستسحب منه ذريعة المقاومة التي كان يدّعيها. فهو لن يستطيع التعامل مع رعاية المجتمع الدّولي وفق القاعدة اللبنانيّة بالتعاطي السياسي النّفعي والمصلحي الخاص الذي لا يراعي المصلحة العامّة، لأنّه قد يكون أمّن ذريعة لإسرائيل ما كانت لتحلم بها يومًا للإنقضاض عليه وعلى لبنان. ومن البديهي أنّ ثمن هذه المفاوضات لن يكون سياسيًّا فقط، بل سينسحب على تفكيك المنظومة المسلّحة بإشراف دولي، مع تقديم المكسب الذي يترقّبه الحزب كتعويض له، ألا وهو الاطباق على الدّولة اللبنانيّة بالكامل وبموافقة دوليّة.
أمّا نظرة المجتمع الدّولي فمختلفة تمامًا، حيث يتطلّع فقط إلى تأمين الاستقرار في هذه المنطقة التي يرى فيها مصدرًا للثروات الطبيعيّة تستطيع أن تحرّر القارّة العجوز من هيمنة القيصر الرّوسي، كما يستطيع أن يقفل الباب الصيني على منطقة الشرق الأوسط التي يعتبرها الصينيّون بوّابة للانطلاق إلى العالم الجديد. ولن يستطيع المجتمع الدّولي التعامل مع مجموعة متحكّمة بلبنان على قاعدة الهيمنة الأيديولوجيّة الخارجيّة.
لذلك كلّه، ستشهد المرحلة القادمة عمليّة تقليم مهذّبة لما تبقّى من أظافر إيرانيّة في لبنان، ومن دون أيّ مساومات. فالمجتمع الدّولي جادّ بوضع حدّ لحالات عدم الاستقرار السياسي في الشرق الأوسط بدأت تباشيرها تظهر في تحوّلات العراق. من هنا، ستتجلّى بوضوح هذه العمليّة في لبنان من خلال خلق عمليّة مساواة سياسيّة بين الأطراف اللبنانيّة كافّة. قد تكون الانتخابات النيابيّة بقانون معدّل لينصف الجميع هي الوسيلة الدّيمقراطيّة. لكن في حال تمّ إفشال هذه الوسيلة، هل سيلجأ المجتمع الدّولي إلى فرض واقع جديد من خلال عمليّة فوضى منظّمة يديرها، قد لا يسمح بوصولها إلى مستوى الحرب الأهليّة، لفرض شروطه الجديدة؟