#الثائر
د. " ميشال الشمّاعي "
تتسارع الأحداث في شرق المتوسّط على خلفيّة محاولات للسيطرة الاقليميّة والدّوليّة لما تجلّت من أهميّة استراتيجيّة لهذه المنطقة. لا سيّما بعدما تثبّتت اكتشافات حقول النّفط والغاز من سرت في ليبيا إلى شواطئ لبنان وقبرص وتركيا. إلى ذلك كلّه لا زالت الصراعات المذهبيّة الاثنيّة مشتعلة في سوريا، وهي كالجمر تحت الرماد في لبنان، ما يجعل هاتان الدّولتان أرضًا خصبة جذبت إليها دول العالم كلّه.
كذلك، بدت الرؤيا أوضح من خلال ما كشفته الديبلوماسيّة الأميركيّة على أثر إجراء اتّصال هاتفي بين وزير الخارجيّة الأميركي مايك بومبيو ونظيره التركي مولود تشاوش أوغلو البارحة، الأحد، حول الحاجة الملحّة إلى الحدّ من التوتر في شرق المتوسّط. وذلك على خلفيّة إعلان تركيا بأنّها ستوسّع نطاق عمليّاتها لاستكشاف حقول الغاز في منطقة متنازع عليها في شرق المتوسّط في تحدّ واضح لدعوات الاتّحاد الاوروبي لخفض حدّة هذا التوتّر.
وذلك أتى بعد زيارة مساعد بومبيو، دايفد هيل إلى بيروت في اليومين الماضيين سعيًا للتوصّل إلى حلّ لأزمة ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل، مع ما قد ينجم عنها من إمكانيّة لحلّ معضلة الحدود البريّة، لا سيّما في المنطقة المتنازع عليها بين لبنان وسوريا والمحتلّة من إسرائيل، في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشمالي من قرية الغجر.
• صراع دولي حول النفوذ في لبنان انطلق بعد إنفجار المرفأ، فهل نشهد المزيد من القوات والجنسيّات على الأرض اللبنانية؟
ممّا لا شكّ فيه أنّ انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب هو نقطة تحوّل استراتيجي في تاريخ لبنان والمنطقة. هذا الانفجار الذي استجلب تدخلات أمميّة بهدف المساعدات الانسانيّة أميركيّة وفرنسيّة وإنكليزيّة وأوروبيّة. فوصلت البارجة البريطانية "HMS Enterprise"، وفرقة من الفيلق الأجنبي الفرنسي على متن حاملة الطوافات الفرنسية "Tonnerre".لكن ما أثار الشكوك في هذه الأساطيل، هو جهوزيّتها العسكريّة إلى جانب الجهوزيّة اللوجستيّة. فبات بحكم المؤكّد أنّ مهمّتها لن تكون لوجستيّة فقط بل سيكون لها دور يتخطّى هذه الأهداف، لا سيّما أنّ اللبنانيّين جميعهم ينتظرون صدور قرار المحكمة الدّوليّة غدًا الثلاثاء في 18 الجاري، على وقع أحاديث عن صدور مذكّرات توقيف لشخصيّات لبنانيّة حزبيّة.
وما زاد في تأكيد هذه المعطيات، هي العلومات التي تسرّبت منذ وصول البارجة الفرنسيّة عن تضمّنها فرقة لـLégion étrangère أو الفيلق الأجنبي الفرنسي. وهو وحدة عسكرية فريدة في الجيش المذكور خصيصا للأجانب الذين يرغبون أن يخدموا في القوات المسلحة الفرنسية، ولكن بقيادة الضباط الفرنسيين. وهي معروفة بمشاركتها في أعمال القبض على الارهابيّين والمطلوبين إلى العدالة؛ وآخر مشاركة لهذه القوات كانت في مناورات عسكريّة في عمليّة برخان شمال بوركينا فاسو بداية هذا العام، والتي كان الهدف الفرنسي منها محاربة "الإرهاب" المتمدّد في المنطقة الصحراويّة بالبلاد. وما لفت في هذه المشاركة هو ظهور أعضاء هذه الفرقة في شوارع العاصمة الماليّة باماكو بمظهر مثيري الشغب، حيث بدت الوشوم المختلفة على أجسادهم، كما لفت إلى ذلك سفير مالي في باريس.
كذلك لا بدّ من ملاحظة وصول فريق من الFBI للمشاركة في التحقيق الذي ستجريه الدولة اللبنانيّة في انفجار المرفأ مع ملاحظة ما أدلى به " هيل " في زيارته الأسبوع الفائت حيث صرّح بشكل واضح بأنّه " لا يمكن العودة إلى عصر كان يحدث فيه أي شيء على حدود لبنان، ومرافئه مع ضرورة سيطرة الدولة اللبنانية على الحدود، والمواقع الرسمية" في إشارة أميركيّ’ واضحة إلى سيطرة بعض الأحزاب مثل "حزب الله" على بعض المناطق اللبنانيّة.
• عودة السلطان
أمام هذا الواقع لا يبدو أنّ الفرنسيين والانكليز سيكونون وحيدين في لبنان، لا سيّما المحاولات التركيّة للدخول عبر بوابة المساعدات الاجتماعيّة، حيث أعلنت السلطات التركيّة عن نيّتها في ترميم كتدرائيّة مار جرجس المارونية’ في وسط البلد؛ وهذا ما أثار مخاوف بعض اللبنانيّين لا سيّما المسيحيّين منهم في أن تتحوّل هذه الكاتدرائيّة بعد مئة عام إلى آيا صوفيا جديدة.
كذلك تسرّبت معلومات عن مساعدات تقدّمها تركيّا لبعض اللبنانيّين في منطقة طرابلس وشمال لبنان. ما يشي بذلك إلى انّ حلم السلطنة عاد ليراود الفكر الأردوغانيّ من جديد، لا سيّما بعد اقتراب موعد الانتهاء من معاهدة لوزان الثانية التي تسببت بتقليصٍ جغرافيا الدولة التركية الحديثة، وإلزامها بالتنازل عن مساحات كبيرة كانت تتبع لها ومنع تركيا من التنقيب عن البترول واعتبار مضيق البسفور الرابط بين البحر الأسود وبحر مرمرة، ثم إلى البحر المتوسط ممرا دوليا لا يحق لتركيا تحصيل رسوم من السفن المارة فيه. و بحلول 2023 تنتهي مدة المعاهدة التي يكون قد مرّ عليها مائة عام، ومن هنا تفهم تصريحات أردوغان ، اذ ستدخل تركيا عهدا جديدا، وستشرع في التنقيب عن النفط.
• لبنان المحايد هو لبنان الجديد
أمام هذه الوقائع أعلن اليوم غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي "مذكرة لبنان والحياد الناشط" التي تمّ نشرها باللغات الـ 3 العربية والفرنسية والانجليزية، وتمّ توزيعها على المرجعيّات اللبنانيّة: سياسيّة وإعلاميّة واجتماعيّة وعلى حدّ ما قال غبطته ليتمّ مناقشتها في النّدوات والأندية الثقافيّة والفكريّة. وأبرز ما تضمّنته المذكّرة هو التوضيح الذي عمل على نشره غبطته في عظاته ومواقفه منذ الخامس من تمّوز المنصرم، تاريخ إعلانه الأوّل. فالمكوّن الأول للحياد هو عدم دخول لبنان في تحالفات ومحاور وصراعات سياسية وحروب إقليمية ودولية وامتناع أي دولة عن التدخل في شؤونه أو استخدام أراضيه لأغراض عسكرية. وهذا ما سينهي ظاهرة " لبنان الساحة" التي يتمّ إطلاق الرسائل الدّوليّة والاقليميّة فيها وعلى حساب المصلحة الوطنيّة.
أمام هذا الواقع المرتجى تمنّى غبطته أن يستعيد لبنان المحايد الدور الاقليمي الذي لعبه منذ تاريخ نشوئه في العام 1920 وحتى العام 1969 تاريخ إدخاله في صلب الصراع الفلسطيني وتحوّله إلى منطلَق للمقاومة الفلسطينيّة وما نتج عن اتّفاق القاهرة من تداعيات على استقراره وأمنه.
ولا يعني الحياد أن تكون الدّولة ضعيفة عسكريًّا، على العكس تمامًا، حيث ستكون دولة قويّة عسكرياً بجيشها ومؤسساتها، وقانونها، وعدالتها، ووحدتها الداخليّة لكي تضمن أمنها الداخلي من جهة، وتدافع عن نفسها بوجه أيّ اعتداء بري، أو بحري، أو جوّي، يأتيها سواء من إسرائيل أو من غيرها من جهة أخرى. وذلك بعد معالجة الملفات الحدودية مع إسرائيل على أساس خط الهدنة وترسيم الحدود مع سوريا أيضاً.
على ما يبدو أنّ ولادة لبنان الجديد صارت واقعًا لا يمكن التهرّب منه بعد اليوم؛ لكن الاشكاليّة الكبرى تكمن في فترة المخاض ما قبل الولادة وفي تكاليفها. فما بين المدّة والثمن يقف اللبنانيّون عاجزون في وضع حرج جدًّا حيث لم يتمكّن أحد بعد من قراءة واضحة للمستقبل الذي ينتظر لبنان. فهل ستتمكن بكركي في العام 2020 من استيلاد لبنان الجديد من فم الأسد كما ولدت لبنان الكبير عام 1920؟