#الثائر
- ظافر مراد
أطلق البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي مؤخراً، مبادرته بإعتماد "الحياد" كخيار في سياسة الحكومة الحالية، وكان قد زار فخامة رئيس الجمهورية لطرح هذه المبادرة ومناقشتها، كخطوة بإتجاه حل المشاكل العديدة التي تواجه لبنان، متوقعاً موقفاً إيجابياً من الرئيس، كون هذا الخيار ليس موجهاً ضد أحد، حيث أنه لا يُعتبر موقفاً متقدماً ومستجداً، خاصة بعد أن نادى به سابقاً عددٌ من الشخصيات اللبنانية الحيادية والمستقلة، وكان جواب فخامة الرئيس، أن التوافق بين المكوّنات اللبنانية هو الأساس لأي خيار يتناول الواقع اللبناني، واعتبر أن الوفاق الوطني هو الضمان الأساسي لأي حلّ للأزمة اللبنانية.
في الواقع أن الحياد ليس مفهوماً شامل التطبيق، بل إنه يتعلق بمسائل وقضايا محددة، وعادة تكون هذه القضايا سياسية بإمتياز، وهو في الأساس موقف سياسي أكثر منه قانوني، وهذا المفهوم مختلف عن " عدم الإنحياز" والذي يأخذ طابعاً مستداماً برفض الدخول في أي حلف سياسي أو عسكري له صفة الديمومة في صراعات طويلة، كما أنه يعتبر من المفاهيم المعقّـدة في القانون الدولي العام، وقد تضمنت اتفاقيات 18 تشرين الأول 1907، التي وقّـعت في مؤتمر لاهاي الثاني، نصوصا تحدِّد حقوق والتزامات الدول المحايدة.
يشكل مفهوم الحياد بالنسبة للبنان، خياراً إستراتيجياً مرتبطاً مباشرة بالسياسة الخارجية لهذا البلد، وهذا الخيار يُعتمد عادةً عندما تكون الخسارات المادية والمعنوية في المشاركة في أي مواجهة سياسية، عسكرية أو إقتصادية، مكلفة جداً وتفوق كل المكتسبات والأرباح المتوقعة، حيث يجب إجراء مراجعة شاملة، وعلى أعلى المستويات في مراكز صنع القرار، وأثناء تحديد وبناء السياسات الخاصة لكل بلد، مع الأخذ بعين الإعتبار البيئتين الإستراتيجيتين الداخلية والخارجية، وما تحويهما من تعقيدات وإلتزامات مفروضة، وهذا لا يشمل فقط مراجعة للتاريخ، وتحليل للواقع الحالي، بل يتطلب أيضاً الأخذ بعين الإعتبار التوقعات المستقبلية وقراءة التحولات في المواقف الإقليمية والعالمية، خاصة في سياسات اللاعبين الكبار.
يعتمد النجاح في تطبيق نظام الحياد في لبنان على توفر ثلاثة شروط أساسية وهي:
رغبة وموافقة غالبية اللبنانيين على "الحياد"، وهذا ما تحدث عنه فخامة الرئيس، وهنا نواجه إشكاليتين، الأولى كيفية تحديد " غالبية اللبنانيين" وتأكيد هذه الرغبة، هل سيكون ذلك من خلال التصويت في مجلس النواب الذي يمثل الشعب؟ أم عن طريق إستفتاء شامل، والإشكالية الثانية تكمن في الفهم الكامل من قبل المواطنين لمعنى الحياد، وعدم وقوعهم في التضليل السياسي والإعلامي للتأثير على موقفهم منه.
موافقة الدول الإقليمية، أو دول الجوار الجغرافي على ذلك، وهذا لا يعني المس بمفوم السيادة الوطنية، لأن إعلان الحياد يتطلب عدم تورط لبنان، أو أي جهة داخليه بأزمات وصراعات الدول المجاورة، وبالتالي لا يمكن توفير هذا الشرط إلا من خلال إزالة كل النشاطات والعوامل المادية والمعنوية التي تؤكد هذا التورط.
قدرة الحكومة اللبنانية بكافة مقوماتها على تكريس وحماية هذا الحياد، وهذا يتطلب قوة عسكرية، ديبلوماسية وإقتصادية تمنع أي تدخل خارجي في شؤونه الداخلية وسياساته الخارجية، وتمكنه من بسط سيطرته الأمنية على كافة اراضيه، إضافة الى ضمان ضبط الوضع الداخلي والسيطرة على المواقف والنشاطات التي من شأنها الإخلال بهذا المفهوم.
يعكس الواقع السياسي والعسكري الإقليمي، مدى التأزم في عدد كبير من الملفات الهامة، والتي تمس بالواقع اللبناني بشكل مباشر، وتهدد كيانه ورسالته الحضارية، فلبنان مطوق سياسياً وأمنياً وإقتصادياً بعدد كبير من القضايا التي تجعل من تطبيق مفهوم الحياد، مسألة جدية وهامة ولكن مستعصية، بسبب عدم توافر الشروط الثلاث التي تحدثنا عنها، وعدم توافر هذه الشروط مرتبطٌ بعاملٍ أساسي لا يُخفى على أحد، فالبعض يعتقد أن لبنان هو جزءٌ أساسيٌ من منظومة مواجهة إقليمية، لا يمكن فصله عنها، والبعض الآخر يعتقد بأن لبنان تم إستنزافه حتى الرمق الأخير، وفي حسابات الربح والخسارة، هو الخاسر الأكبر، وأن مستقبله الإقتصادي والسياسي لا يمكن ضمانه إلا عن طريق علاقات ممتازة مع الدول العربية ومع الغرب.
يبدو أن مبادرة البطريرك الراعي ستؤسس لمرحلة سياسية جديدة في لبنان، والدليل الزيارات واللقاءات المتعددة له، ومن أطراف وجهات مختلفة تأثرت سلباً أو إيجاباً بهذا الطرح، ومهما آلت إليه هذه المبادرة في النهاية، إلا أنها دليلٌ واضحٌ على أن بكركي، عبر التاريخ والحاضر والمستقبل، ستبقى أحد أعمدة السيادة الوطنية، وأحد المؤثرين الأساسيين في توجيه دفةهذا الوطن بإتجاه الخلاص والنجاة.