تابعنا عبر |
|
|
الثائر تقدم لكم تقنية الاستماع الى مقالاتها علّم أي مقطع واستمع إليه
#الثائر
- د. ناصر زيدان -
تجاوزت الحرب في أوكرانيا المدّة الزمنية التي كانت متوقعة – أو مرصودة – لها، وهي دخلت في أنفاق سياسية ودولية متعددة ومتنوعة، وتبيِّن الوقائع أن الحسابات الأوروبية تجاه هذه الحرب تختلف عن الحسابات الأميركية، رغم الترابُط العسكري العضوي بين ضفتي الأطلسي.
يرى رئيس وزراء بريطانيا السابق بوريس جونسون في حديث إلى صحيفة "الديلي ميل" أن الجيش الأوكراني المُدجج بالسلاح، والمُدرَّب تدريباً جيداً، والذي اكتسب خبرةً قتاليةً ميدانيةً جراء المعارك التي خاضها ضد الروس؛ يمكنه أن يحُلّ مكان القوات الأميركية في أوروبا في المستقبل. ويقول جونسون: يمكن لدونالد ترامب إذا وصل إلى الرئاسة في أميركا أن يعقد صفقة مع روسيا بإعادتها إلى مجموعة 7+ واحداً، وبإنهاء مسألة الخلاف على الحدود مع أوكرانيا، بما في ذلك ملف جزيرة القرم، مقابل إرضاء كييف بإدخالها في حلف الأطلسي. وجونسون كان من أكثر المتحمسين للحرب ضد روسيا، وموقفه ساهم في رفض أوكرانيا توقيع معاهدة مع موسكو تنهي الحرب بعد أشهر على بدايتها في ربيع عام 2022، وكان من أبرز حلفاء واشنطن إبان تزعمه التيار الذي أخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في نهاية عام 2020.
وتؤكد وقائع اندفاعة أحزاب اليمين في عدد من الدول الأوروبية، والتي توضَّحت في الانتخابات التي أجريت في عدد من الدول الرئيسية؛ أن غالبية من الرأي العام في أوروبا بدأت تخاف من وجود نيات مَخفيِّة في رؤية الحلفاء، وعند بعض الخصوم، وهؤلاء يتطلعون إلى حماية القارة وشعوبها الأصلية من أطماع الشرق، ومن جنوح السياسة الأميركية التي تحمل أولويات مختلفة عن الأولويات الأوروبية. وتصريحات المرشح الرئاسي دونالد ترامب زادت من مخاوف هؤلاء، ووصوله إلى الحُكم سيؤدي إلى الاقتصاص من الدول الأوروبية التي لم تُساهم بما يكفي بموازنة "الناتو" في رأيه، بينما يرى بعض اليمين في أوروبا أن إمكانات التعاون مع موسكو ما زالت قائمة، وليس لأوروبا أطماع في ثروات روسيا وأراضيها كما يقول البعض.
هناك شيء ما غير معلوم في مجريات الحرب الأوكرانية. هل يستعد الأوروبيون للقتال مباشرةً ضد روسيا؟ أم أن هذه الفرضيات غير واقعية، وهي تستند إلى تشجيع أميركي لإبقاء القارة أسيرة للسياسة الأميركية، لأن واشنطن كانت على الدوام المدافعة عن الديموقراطية الأوروبية؟
تصريحات الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش الأخيرة أثارت التباساً كبيراً، وسلَّطت الضوء على خفايا غير منظورة. وهو قال إن أوروبا تتحضَّر بالفعل لحرب مباشرة مع روسيا، لأن بعض الدول الأوروبية – ومنها الدول الإسكندنافية - تعتقد أن روسيا لا تستحق كل هذه الأراضي الشاسعة، ولا الثروات الهائلة من الغاز والنفط والفوسفات والذهب والفضة بمفردها، ويجب أن تكون هذه الثروات للعالم أجمع (كما صرَّح فوتشيتش لقناة بينك تي في) وصربيا هي الدولة الأوروبية الوحيدة الصديقة لروسيا، ولم تلتزم فرض العقوبات عليها، وهناك مقاتلون صرب يحاربون في صفوف مجموعة "فاغنر" الروسية على الأراضي الأوكرانية.
زيارة وزير خارجية أوكرانيا ديميترو كوليبا للصين في 23 تموز (يوليو) أكدت هي الأخرى متغيرات تحصل على الساحة الأوروبية، خصوصاً أنها جاءت بعد المؤتمر الـ75 الذي عقده قادة حلف الأطلسي في واشنطن، وحضره كضيف الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي.
والصين كانت قد عرضت التوسط لإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا في السابق، ولم تتمّ الاستجابة لمبادرتها في حينها. وقد تكون هذه المبادرة الأوكرانية إلى الانفتاح على الصين رسالة إلى حلفاء كييف الغربيين الذين قلَّصوا من منسوب مساعداتهم في المدة الأخيرة، وربما تكون بهدف إيجاد تسوية سلمية للنزاع مع موسكو، قبل ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، لأن زيلنسكي يخاف بالفعل من رؤية ترامب لمستقبل الصراع في أوروبا، رغم أن قمة "الناتو" الأخيرة أقرَّت تقديم مساعدات لأوكرانيا بقيمة 43,28 مليار دولار للعام القادم.
من المؤكد وجود رؤى مختلفة بين الدول الغربية حول الحرب في أوكرانيا، خصوصاً بعدما خابت معظم التوقعات التي وضِعت عند بداية الحرب في 24/2/2022، وروسيا صمدت اقتصادياً ومالياً طيلة هذه الفترة، وتجاوزت مخاطر العقوبات الواسعة التي فرضت عليها، وهي اليوم على حالٍ أفضل مما كانت عليه قبل الحرب، وقد سجَّلت نمواً في صادراتها من المواد الخام، بينما قيمة عملتها "الروبل" عادت إلى التحسُّن الملحوظ.
أما الاستعراضات العسكرية التي جرت على أنواع الأسلحة؛ فلم تهزّ صورة السلاح الروسي على شاكلة كبيرة كما توقَّع الغربيون، رغم بعض التفوق في نوعية السلاح الغربي ودقته، بل على العكس من ذلك، فقد ظهرت إلى الملء قدرة السلاح الروسي التقليدي على التعامل بندِّية مع مثيله الغربي الذي حصلت عليه أوكرانيا، وقد فعلت التهديدات النووية الروسية فعلها في ثني الغرب عن عدم الانخراط مباشرةً في الحرب، وتراجعت أميركا والدول الأوروبية عن نياتها بإرسال جنود إلى جبهات القتال، بعدما أرسلت موسكو غواصاتها النووية إلى شواطئ كوبا، ونشرت الصواريخ التي تحمل رؤوساً نووية بالقرب من حدودها الغربية، وأقام الرئيس فلاديمير بوتين حلفاً قوياً ومتماسكاً مع الصين ومع كوريا الشمالية، كما أغرى الهند بحوافز نفطية وصناعية كبيرة، جعلها تصرف النظر عن مشاركتها في حلف ضد بلاده.
هناك ما هو معلوم بمجريات الحرب الدائرة في أوكرانيا، وهناك ما هو مخفي فيها أيضاً.
المصدر: النهار العربي