تابعنا عبر |
|
|
الثائر تقدم لكم تقنية الاستماع الى مقالاتها علّم أي مقطع واستمع إليه
#الثائر
عامر زين الدين - الأنباء
تعثّرت معايير المواطنة في لبنان "الدولة الديموقراطية" بتعدّد الولاءات الطائفية. وصار الصراع بين فكرتَي المواطنة والطائفية هو الرائج، وكل كلام المواطنة إنما تطغى عليه الصبغة الطائفية. وما بين الانتماء إلى الدولة وتطبيق الواجبات، وأخذ الحقوق المدنية، ارتباط عضوي بالطائفة ومراكزها الدينية ومؤسّساتها الخاصة، وهو متجذّر إلى حدود القدسية.
فمنذ نشأة لبنان وولادته يبرز الحديث عن المواطنة كشعارٍ أول في كل المحطات الأساسية باستثناء الاستحقاق الانتخابي الذي لا يُبقي من هيبة الدولة إلّا إجرائها هذا الاستحقاق الدستوري من خلال القوانين والأنظمة المرعية، فيما الطائفية ملازمة له على جميع الصُعُد، ليصبح بلداً طائفياً مغلّفاً بالديموقراطية. وما تعصّب الجماعات الأهلية وكأنّها عائلات ممتدة، أو عشائر كبيرة، إلّا خير دليل على ذلك. بيد أنّ النظام السياسي أنتج كياناً اجتماعياً وحقوقياً، وحتى الكلام عن مكافحة الفساد، مرشّحٌ دائماً للخضوع لما تأمر به الحسابات الطائفية، والمصالح السياسية المتّصلة بها. وفي هذا السياق قليلاً ما نرى جهةً سياسية تخاصم أخرى لمجرّد أنّها فاسدة، فيما نجد جهات كثيرة لا تتردّد في وصم خصومها بالفساد. وتقع الخصومة أحياناً، وهي كثيراً ما تكون طائفية. وإذا هاجم أي ثائر فاسداً من طائفة أخرى نُسبت إليه بواعث طائفية، فيتحول الاتّهام طائفياً خبيثاً، فيردّون عليه بهجوم طائفي صريح.
على أي حال لم تعد الطائفية محرجة عند الكثيرين، لا في حماية الفساد ولا في مختلف مجالات الحياة العامة، وطغت سياسات الهوية في تصارعها على الدولة، وفي تقويض وحدتها. وكل ذلك أدّى إلى تراجع فكرة المواطنة، وحتى الشراكة في القيَم بوصفها شرط المواطنة (أصبحت) أكثر تأزماً، ذلك أنّ القيَم المشتركة لا تبدو راسخة حتى تمنع دون تحوّل الاختلاف إلى تناقض جذري ينذر بالعنف، فباتت المواطنة في مواجهة العصبيّات المتجدّدة، أو بالأحرى التي يعاد اختراعها، وتضاعفت بالتالي المشقّة في تغليب المصيريات على الصغائر.
في المقابل، صحيحٌ أنّ أهل لبنان باتوا لبنانيين، وإن لم تكن لبنانيّتهم واحدة في السياسة والثقافة، وقد ألّف كل منهم على طريقته بين الهوية الوطنية، وبين الانتماء إلى الجماعة الطائفية. لكن في المجمل بقي اللبنانيون متأرجحين بين النزعة إلى المساواة ووحدة الأهداف الوطنية، وبين الدفاع عن جماعاتهم الخاصة ومصالحها المفترضة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى شعار العيش المشترك، فأضحى بحسب المصطلح الذي يحلو للبنانيين ترداده وهو الذي وُضع أساساً في نص الدستور، كنايةً للحديث عن تقاسم السلطة بين الطوائف، أو بالأحرى بين القوى ذات التمثيل السياسي الأوسع لها. وقد أُلبس تارةً لبوس الوحدة الوطنية أو الميثاقية، وطوراً يُحسَب كرديفٍ للديموقراطية التوافقية بوصفه لقاءً بين مواطنين يقوم على إحياء الرغبة في البقاء معاً، باعتبار العصبيات التي تتنازع الدولة تبقى أقوى، ولا تؤمن فعلياً بالمساواة السياسية والقانونية بين المواطنين الذين وإن صاروا أكثرية، لكنّ الخلافات تستغرق المجتمع اللبناني في معظمه، ولا تترك مجالاً كافياً للائتلاف حول أهدافٍ لا تحتمل المحاصّـة بين الطوائف، وهو ما جعل فئات واسعة لا تتخلى عن عاداتها الطائفية.
من هنا فإنّ السير في طريق تجاوز الطائفية يقتضي التشديد على حقوق الأفراد، بل وحمايتها عند تناقضها مع حقوق الطوائف. ويتطلب أيضاً تغييراً اجتماعياً وثقافياً كشرطٍ للتغيير السياسي، أو على الأقلّ ملازماً له، مما يعني أنّ الطريق إلى تجاوز الطائفية ما زال طويلاً، ولا شيء ينبئنا حتى الآن أنّ السير فيه هو من غير رجعة، أو أنّ المواطنة بألف خير.