#الثائر
عندما ارتكب الجيش الإسرائيلي مجزرة المستشفى المعمداني في قطاع غزة، مع الإشارة إلى أنها تزامنت يومها مع زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى إسرائيل، تكونت وجهة نظر أن الحرب على غزة قد شارفت على الانتهاء. وأن الرئيس الأميركي سيمارس ضغوطاً قصوى على نتنياهو لوقف الحرب، وأن المجزرة التي ارتكبها العدو الإسرائيلي تندرج في سياق آخر العمليات التصعيدية بأهدافها المتعددة، للتهجير والتجزير، قبل انتهاء الحرب. ليتبين لاحقاً كل ما هو معاكس لوجهة النظر هذه. كرّس الإسرائيليون معادلات معاكسة لكل التوقعات، سياسياً، ديبلوماسياً، وحتى عسكرياً. فأصبح التفاوض جزءاً من عمليات الإلهاء في مقابل تصعيد وتكثيف العمليات العسكرية، وكلما اقتربت المفاوضات من لحظة جدية صعّد الإسرائيليون من عملياتهم وكثفوها وأجهضوا كل المحاولات. ما جرى في غزة يتكرر بتفاصيله في لبنان.
أبعد من أمن المستوطنات
كانت مجزرة المعمداني في غزة محطة من عشرات المحطات التي ارتكب فيها الإسرائيليون المجازر، في سبيل تهجير الفلسطينيين، وتحقيق المشروع الإسرائيلي الأكبر في السيطرة على القطاع وإخراج السكان الأصليين منه. كل المسارات الديبلوماسية أجهضتها إسرائيل ابتداء من القرار الدولي رقم 2735. كما أجهضت كل المسارات منذ اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، ونداء بايدن- ماكرون. كذلك رفضت أي مساع جدية بعد استشهاد قائد حركة حماس في غزة يحيى السنوار.
ذلك يتكرر في لبنان أيضاً، منذ تفجيرات البايجرز، إلى اغتيال غالبية القادة العسكريين والأمنيين في الحزب، واغتيال الأمين العام السيد حسن نصرالله، وهاشم صفي الدين. ولو أرادت إسرائيل وقف النار فعلياً، لأقدمت بعد هذه الاغتيالات والإنجازات على إنجاز التسوية، ولما أقدمت على بدء العملية البرية. وبالتسوية كانت قد تمكنت من إعادة سكان المستوطنات الشمالية. لذا، من الواضح أن الهدف الإسرائيلي أبعد بكثير من مجرّد إعادة السكان. إذ يعتبر الإسرائيليون أن الفرصة السانحة جاءت إليهم لضرب حزب الله عسكرياً، وتغيير موازين القوى، والشروع في فتح مسار عسكري وأمني وسياسي جديد لا يقتصر على حدود لبنان، بل يطال سوريا والمنطقة أيضاً.
على إيقاع هوكشتاين
وللمفارقة أنه مع كل زيارة يجريها المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين، يستبقها ويستتبعها الإسرائيليون بالتصعيد الكبير في العمليات. تُشاع أجواء إيجابية، ويتوجه هوكشتاين إلى إسرائيل ومن هناك يغيب عن السمع كما يغيب الإسرائيليون عن التصريحات ويكتفون بالتسريبات، على وقع تفعيل العمليات العسكرية وتكثيفها ويواصلون عمليات الاغتيال. ما إن غادر المبعوث الأميركي حتى جدد الإسرائيليون استهداف بيروت الإدارية، والضاحية الجنوبية، بالإضافة إلى توسيع العمليات البرية، في محاولة لفرض أمر واقع عسكري، وهو السيطرة على "الخيام"، التي تعتبر استراتيجية جداً في القطاع الشرقي وفي الإشراف على مناطق واسعة من الجنوب ونهر الليطاني. بالإضافة إلى السعي للسيطرة على بلدة البياضة المشرفة على مدينة صور ومن خلالها يمكن قطع الطريق البحري، إلى جانب السعي للسيطرة عل مدينة بنت جبيل نظراً لرمزيتها. وبذلك يعتبرون أنهم حققوا نصراً عسكرياً يمكن من خلاله فرض شروطهم. حصل هذا التصعيد على وقع بعض الاتصالات التي أجراها هوكشتاين مع مسؤولين لبنانيين، أشار فيها إلى أنه حقق تقدّماً، ولكن لا تزال هناك بعض النقاط العالقة والتي تحتاج إلى توضيح وتوافق، وهو ما سيعمل عليه. خلاصة القول، إن نتنياهو يرفض الاتفاق حالياً ويسعى إلى كسب الوقت بغية تغيير الوقائع والظروف.
حرب نفسية واستيطان
ليس مضموناً أيضاً، أن يتوقف الإسرائيليون عند حدود الخيام، أو البياضة، أو بنت جبيل، لا بل إن تقدمهم سيفتح شراهتهم على التقدم أكثر، وربما السعي للسيطرة على الكثير من المناطق في جنوب نهر الليطاني، وتغيير كل الواقع العسكري، واستخدام هذا التوغل لاحقاً في أي مفاوضات حول آليات انسحابهم. في الموازاة يديرون الحرب النفسية أيضاً من خلال الإعلان عن السعي لإنشاء منطقة أمنية أو منطقة عازلة بعمق 5 كلم، لن يكون مسموحاً لسكانها أن يعودوا إلى منازلهم فيها، ويرفعون مستوى هذه الحرب إلى حدود الإضاءة على إعلانات يتم نشرها في إسرائيل حول بناء مستوطنات في هذه المناطق وتقديم إعلانات لشراء عقارات.
الآليات نفسها التي اعتمدتها إسرائيل في غزة تكررها في لبنان. وما بين غزة ولبنان تُشاع أو تُسرَّب معادلة "تلازم المسار والمصير". وهي المعادلة التي كانت سابقاً تسري ما بين لبنان وسوريا، في تعبير واختصار لعدم اتجاه أحد البلدين إلى أي اتفاق سلام من دون الآخر. حالياً، انقلبت المعادلة كلياً، فسوريا حيّدت نفسها تماماً عن الصراع، بينما مسار غزة ولبنان هما المتلازمان، في سعي إسرائيلي واضح لعدم السماح لبقاء أي قوة مقاومة على "حدودها". فما تعلنه تل أبيب حيال غزة هو نفسه ينطبق على لبنان، وإن لم تعلن ذلك أو تتبناه بشكل رسمي. علماً أنه يجب التوقف عند معادلة واضحة أطلقها الإسرائيليون سابقاً حول تغيير الوقائع العسكرية والسياسية في المنطقة. وهو ما يسري على فلسطين، لبنان، سوريا، ويطال إيران أيضاً.
اتفاقية سلام؟
على الرغم من كل الأجواء حول المفاوضات، إلا أن أجواء دولية أخرى تشير إلى أن نتنياهو يستند على الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب لتحقيق مشروعه في المنطقة. ما يعني أن الحرب الإسرائيلية قابلة للاستمرار حتى الربيع المقبل، فيأخذ الإسرائيليون كل هذه المدة كمحاولة لتغيير الوقائع العسكرية، وبعدها يكون ترامب قد دخل إلى البيت الأبيض وعمل على تشكيل إدارته وبدأ بالسعي لوقف الحرب بما يتلاءم مع مصلحة إسرائيل، وهو الذي قال إنه يريد "زرع السلام" في المنطقة. وعليه، سيشتد الضغط الأميركي سياسياً معطوفاً على الضغط الإسرائيلي عسكرياً، في محاولة لفرض اتفاق سلام مع لبنان وسوريا، في سياق إعادة إحياء "معادلة تلازم المسار والمصير".
فما يتردد دولياً هو أن إسرائيل لن تقبل في إعادة الوضع إلى ما كان عليه، وأنها تريد تكريس مرحلة جديدة وفق مصلحتها مستندة على دعم دولي كبير ومطلق، ومن خلاله تريد فرض "اتفاق" سلام أو إذعان على لبنان، الذي لا يزال يؤكد أنه لا يمكن أن يوافق على هذا المسار، وأنه الدولة الأخيرة التي يمكنها التوقيع على مثل هذا الاتفاق. ولذلك يتمسك لبنان باتفاق الهدنة الصادر عام 1949، من دون فتح حدود أو سفارات أو علاقات، ومع تشديد ومطالبة بخروج الإسرائيليين من المناطق التي احتلوها.
المصدر: المدن