#الثائر
- " اكرم كمال سريوي "
ردت ايران على تدمير إسرائيل لقنصليتها في دمشق، وانقسمت الآراء حول تأثير هذا الرد، بحيث اعتبره البعض مسرحية متفق عليها. وانتقد ابلاغ إيران توقيت الضربة لعدد من دول المنطقة، بما فيها أمريكا، التي ابلغت موعد الضربة إلى إسرائيل، مما سمح لها باتخاذ كافة الاستعدادات اللازمة لصد الهجوم الايراني.
ورأى البعض الآخر أن الرد الإيراني نقطة تحول كبرى في الصراع، بغض النظر عن حجم الخسائر التي لحقت بإسرائيل.
فما هي حقيقة ما حصل، وكيف سترد إسرائيل على الضربة الإيرانية؟ وماذا ستحمل الأيام القادمة؟؟
تبلغ المسافة بين إيران وإسرائيل في أقرب نقطة 970 كلم، وبين مدينة “قصر شيرين” الإيرانية ومنشأة رادارات ديمونا الأميركية في صحراء النقب، في إسرائيل، تبلغ 1058 كلم، أما إلى حيفا فهي 1100 كلم.
وتعتبر قاعدة ديمونا أهم مركز رادارات أمريكي في المنطقة، وفيها أبراج يصل ارتفاعها إلى 400 متر، من أجل رصد الصواريخ البالستية، حتى مسافة 2400 كلم.
ويقول الأمريكيون أنه لا يمكن حتى لإسرائيل أن تطّلع على معلوماتها.
بسبب بعد المسافة ووجود أكثر من 4 آلاف قمر صناعي أمريكي وإسرائيلي، وقاعدة ديمونا لمراقبة المنطقة، وكل هذا التطور التقني، لا يمكن لإيران عملياً، توجيه أي ضربة مفاجئة لإسرائيل.
فكل التحركات العسكرية وانطلاق الصواريخ، سيتم كشفها فوراً.
النقطة الثانية أن المسيرات الإيرانية المتجهة نحو إسرائيل، اضافة إلى صواريخ كروز، عليها أن تمر في أجواء عدة دول، تفصل بين البلدين.
وهذا يُعتبر انتهاكاً لسيادة هذه الدول.
ومن حق هذه الدول أن تُغلق أجواءها أمام الطرفين المتنازعين.
من ناحية أخرى فإن منطقة الشرق الأوسط مزدحمة بحركة الملاحة الجوية، وأي خطأ في الحسابات العسكرية، قد يتسبب بكوارث إنسانية، ولا بد من إغلاق الأجواء، قبل تنفيذ أي إطلاق للصواريخ أو المسيرات.
لهذه الأسباب مجتمعة، ابلغت إيران الدول المعنية عن موعد الضربة، ووضعت قواتها أمام تحدٍّ صعب، لإيصال المسيرات والصواريخ إلى إسرائيل، وتجاوز المئات من أحدث منظومات الدفاع الجوي الأمريكية والبريطانية والفرنسية والأردنية والإسرائيلية، التي كانت في حال استنفار قصوى، وتصدت للمقذوفات الإيرانية.
شكّلت هذه الضربة اختبارًا لقدرات إيران العسكرية، ومبارزة عملية مع أهم قدرات الدفاع الجوي، الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية.
على المستوى العسكري رغم اسقاط معظم الصواريخ والمسيرات الإيرانية، يمكن القول أن إيران نجحت في الاختبار، وأوصلت بعض الصواريخ التي أصابت أهدافها، في قاعدة نيفاتيم ومرصد جبل الشيخ.
فكيف تمكنت من فعل ذلك؟
أرسلت إيران بداية دفعة من مسيرات شاهد 136 الانتحارية، التي يبلغ مداها الفي كلم، وتحمل رأساً متفجراً بزنة 50 كلغ، وتبلغ سرعتها نحو 185 كلم/س . وهذه السرعة البطيئة نسبياً، إضافة إلى الصوت الذي تصدره محركاتها، تجعلها أهدافاً سهلة لمنظومات الدفاع الجوي.
وكانت هذه الدفعة بمثابة استطلاع لمنظومات الدفاع الجوي، على المسار الذي ستسلكه الصواريخ.
ثم أرسلت إيران دفعة أخرى من المسيرات، لمشاغلة واستنزاف ذخيرة منظومات الدفاع الجوي، واتبعتها بدفعة ثالثة وصلت بغالبيتها إلى سماء فلسطين المحتلة، وأشغلت الدفاعات الجوية الإسرائيلية.
وبعد عدة ساعات أطلقت إيران دفعة من صواريخ كروز ( يمكنها أن تطير بالقرب من سطح الأرض على ارتفاع منخفض) وقالت إيران أنها من نوع"باوه" التي يبلغ مداها 1650 كلم، وتعتبر من الأحدث في الترسانة الإيرانية.
واتبعت المقذوفات الإيرانية مسارين: الأول فوق العراق- الأردن- فلسطين والثاني فوق العراق- سوريا- لبنان فلسطين. وتم اسقاط معظم هذه الصواريخ قبل أن تصل إلى أهدافها.
ثم أطلقت بعدها دفعة من 36 صاروخاً بالستياً ( الصواريخ البالستية تطير على ارتفاع أكثر من مئة كلم ،وتخرج من الغلاف الجوي، ثم تعود بعدها لتخرقه وتتجه نحو أهدافها على الأرض) أي أنها لا تمر في المجال الجوي للدول التي تفصل بين طرفين متحاربين.
وبحسب المصادر الإيرانية، فهذه الصواريخ البالستية هي من نوع "عماد" التي يبلغ مداها 1700 كلم.
تقول بعض المصادر أن بعض الصواريخ الايرانية، تعرضت لخلل أثناء عملية الإطلاق. وتم توجيه انتقادات لإيران عبر وسائل الاعلام، حول هذا الأمر، باعتباره نقطة ضعف في الصواريخ الايرانية.
من وجهة نظر عسكرية، فإن حصول اعطال هو أمر وارد، لكن هذا لا ينفي أهمية المستوى المتقدم الذي بلغته الصناعات الصاروخية الإيرانية، التي باتت تمتلك صواريخ دقيقة فرط صوتية، تصل سرعتها إلى 16 ماخ (أي حوالي 5 كلم/ث مثل صواريخ فتاح وشهاب ٦ وخيبر و غيرها.
ومن الجدير ذكره، أن بريطانيا مثلاً، أجرت محاولتي إطلاق لصواريخ ترايدنت 2 ، وهو أحدث الصواريخ الأمريكية. وأخر هذه التجارب كانت في يناير العام الحالي، وباءت التجربتان بالفشل، وبدل أن يصيب الصاروخ هدفه على بعد حوالي 7 آلاف كلم في جنوب المحيط الهادئ اتجه نحو أمريكا وسقط قرب غواصة نووية وكاد أن يتسبب بكارثة كبرى.
من الواضح أن إيران أرادت إرسال عدة رسائل، من خلال هذه الضربة المدروسة بدقة، والمعروفة النتائج مسبقاً واهم هذه الرسائل:
١- أن إيران جادة في الرد على الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة عليها، ولن تتسامح مع هذه الاعتداءات بعد اليوم.
٢- أن إيران قادرة على الرد بنفسها ولن ترد عبر الوكلاء .
٣- أن إيران لا تريد الدخول في مواجهة شاملة مع أمريكا والدول الغربية، ولن تنجر إلى حرب كبرى يسعى إليها نتنياهو.
٤- اسقطت إيران قوة الردع الإسرائيلية. هذا كما أعلن جون بلتون، وعدد من القادة العسكريين الاميركيين والإسرائيليين.
٥- أظهرت المواجهة المحدودة، أن إسرائيل لا تستطيع أن تواجه إيران بمفردها. وهي بحاجة إلى الدعم والحماية الأمريكية والأوروبية.
٦- سقطت مقولة قدرة إسرائيل على حماية الدول العربية من خطر إيران، وظهر جلياً، أن إسرائيل تحتاج إلى من يحميها.
٧- تعمّدت إيران توجيه الصواريخ لضرب أهداف عسكرية، وتجنبت ضرب قنصلية، أو مرافق مدنية. وحتى أنها تجنبت إلحاق إضرار كبيرة، يصعب على الحكومة الاسرائيلية السكوت عليها، واقتصرت الاضرار على المادية .
وفي كل هذا رسالة واضحة بأن إيران لا ترغب بمواجهة كبرى وإشعال المنطقة.
كيف سترد إسرائيل ؟
شن الإعلام الإسرائيلي حملة على رئيس الأركان هارتسي هاليفي، واتهمه بأنه لم يعدّ الجيش جيداً لمواجهة خطر إيران. فإسرائيل عاشت ساعات من الرعب الحقيقي، وحتى حكومتها اختبأت في الملجأ، وتم افراغ كافة القواعد الجوية من الطائرات لساعات.
وبحسب الإعلام الاسرائيلي، فإن الضربة كلفت إسرائيل مليار دولار، للتصدي للصواريخ الإيرانية.
فماذا سيحصل لو قررت إيران الاستمرار بضرباتها، أو زيادة هذه الوتيرة. وهي قادرة على فعل ذلك، ولديها ما يكفي من الأسلحة والذخائر، لقصف إسرائيل لمدة أشهر.
ويطالب بعض المتطرفين الإسرائيلين بتوجيه رد حاسم وقاسي ضد إيران، لردعها عن التفكير مجدداً بمهاجمة إسرائيل. حتى أن البعض دعا إلى استخدام السلاح النووي.
لم يتوصل مجلس الحرب الإسرائيلي إلى قرار حاسم بشأن الرد على إيران، وذلك يعود إلى عدة أسباب:
الأول: أن اميركا لا ترغب بالمواجهة مع ايران الآن. والرئيس بايدن قادم على انتخابات، ومن الصعب عليه اقناع الشارع الأمريكي، بالانخراط بأي حرب واسعة ضد إيران وحلفائها في الشرق الأوسط، قد يسببها نتنياهو.
الثاني: أن ضربة اسرائيلية محدودة ضد إيران، لن تحقق الأهداف المرجوة. فإيران دولة كبيرة، وتملك عمقاً استراتيجياً كبيراً، بحيث تبلغ مساحتها 1,648,195 كلم مربع، ويبلغ طولها أكثر من الفي كلم، وهذا سيمكنها من استيعاب أي ضربة محدودة.
بعكس إسرائيل التي لا تملك عمقاً استراتيجياً، ولا يمكنها احتمال حرب استنزاف طويلة الأمد.
الثالث أنه لا يمكن لإسرائيل تدمير برنامج إيران النووي، لأن إيران تملك عدة منشآت نووية، محمية جيداً تحت الأرض. والأهم من ذلك ،أن إيران باتت تملك كافة التقنيات والتكنولوجيا النووية، وتصنع أجهزة طرد مركزية متطورة، ولديها مخزون كبير من مناجم اليورانيوم، وليست بحاجة إلى مساعدة أي دولة، في حال قررت انتاج سلاح نووي.
الرابع: أن القوات الأميركية في المنطقة، منتشرة على مساحة واسعة، من المحيط الهندي، إلى الخليج العربي والعراق والاردن وسوريا. وهذه القوات هي قادرة على الدفاع عن نفسها، لكنها ليست كافية لمهاجمة إيران.
فأي عملية هجومية كبرى على بلد كإيران، ستحتاج إلى زيادة عديد وقدرات هذه القوات، بأضعاف مضاعفة.
كما أن هذه القوات ستتعرض لخسائر كبيرة، في حال المواجهة الشاملة مع ايران.
الخامس: أن احتجاز إيران لسفينة الشحن الإسرائيلية، أوضح بشكل قاطع، قدرة إيران على إغلاق مضيق هرمز، وقطع آخر الشرايين الاقتصادية عن أوروبا والعالم، لتدفق النفط والغاز. خاصة بعد الحصار المفروض على النفط الروسي والإيراني والفنزويلي، وتخبط ليبيا في مشاكلها الداخلية.
فإن أي موجهة مع إيران، ستجعل النفط مفقوداً. وبالتالي قد يبلغ سعر البرميل عدة أضعاف سعره الآن، مما سيسبب أزمة لا مثيل لها ولم يسبق أن شهدها العالم .
ينصح بايدن نتنياهو بابتلاع الضربة الإيرانية، وعدم التصعيد. لكن نتنياهو الذي يواجهه اخفاقاً حقيقياً في غزة، وهجوماً كبيراً على حكومته من الداخل والخارج، يريد الهروب إلى الأمام، ولا يجد له من سبيل، سوى حرف الأنظار عما يحصل في غزة ، من فضائع وابادة وفشل في تحقيق الأهداف، سوى الذهاب إلى أستفزاز إيران، كي ترد على إسرائيل بقوة، فتكون أمريكا مجبرة عندها، على دعم إسرائيل، وتوجيه ضربة قوية لإيران.
ويطرح بايدن رداً دبلوماسياً لمعاقبة إيران، كمخرج ومبرر لسكوت إسرائيل. فيما يطرح بعض قادة إسرائيل، رداً يكون محمولاً من ايران، كقصف بعض مواقعها في سوريا، أو هجوم سيبراني على أحد منشآتها.
قال بايدن لنتنياهو: "انت انتصرت" بمعنى أنه لا تقم بالرد على الضربة الإيرانية، موضحاً أنه لا يدعم أي هجوم عليها، وسيسعى إلى حشد رد دبلوماسي على إيران.
لكن إيران التي ابدت تمسكاً بالشرعية الدولية، موضحة أن عملها جاء وفقا لميثاق الأمم المتحدة، يبدو أنه من الصعب معاقبتها دبلوماسيًا، خاصة مع وجود المعارضة الروسية والصينية لأي قرار قد يصدر عن مجلس الأمن.
في المحصلة باتت المنطقة على مفترق خطر فإما ان ينجح التطرف الإسرائيلي بجر امريكا والمنطقة والعالم إلى آتون النار. وإما ينجح محور العقلانية بتسريع مسار التسويات والهدوء وإيجاد حلول مقبولة مرحلياً لاحلال السلام، الذي تدفع نحوه عدة دول في المنطقة، وعلى رأسها المبادرة السعودية الإيرانية، التي يبدو أنها تعثرت قليلاً، بفعل إسرائيلي امريكي، لكنها ما زالت ممكنة ويعوّل عليها.