#الثائر
{ في مثل هذا اليوم، ٢٤ شباط، من العام ١٩٠٩، ولد أبو القاسم الشابي، في تونسَ التي كانت مستعمرةً فرنسيّة، منذ العام ١٨٨١. }
- " شربل شربل " ***
صديقي، أبا القاسم
أنت تعلم أنّني كنت، ولازلت، من المعجبين بتجربتِك الشعريّة النهضويّة التي رفدَها نبوغُك المبكّر، ووفاتُك عن خمسة وعشرين ربيعًا، بشحنة تعاطفيّة قد تتجاوز بعض معايير النقّاد الصارمة لتصبّ في صالح تضخيم شعبيّتك؛ وزاد في قدرتك على التوصيل انتشارُ قصيدتك" إذا الشعبُ يومًا أراد الحياة" مغنّاةً، وقد حظيت بلحن رائع من الفنّان حليم الرومي، أحد عباقرة الفنّ الموسيقيّ في القرن العشرين، وقد جمعت فيها عمقَ المعاني، ورهافةَ الشعور، ورحابةَ الخيال.
لقد بلغْتَ مراتب الحكماء الكبار في معانيك الشاملة التي أضحت قواعد مأثورة:
إذا الشعبُ يومًا أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدرْ
ومن لم يعانقْهُ شوق الحياة تبخّر في جوّها واندثرْ
ومن يتهيّبْ صعود الجبال يعشْ أبد الدهر بين الحفرْ
وقد حلّقت في سماء الخيال وعدت بأجمل التشابيه، وأرقى الاستعارات، وأبلغ الكنايات، وأبعد الرموز…
كما لامست أصدق المشاعر الوطنيّة والقوميّة والإنسانيّة، وأُدرج اسمُك في قائمة الثوّار، قادةِ التحرّر، ليس في تاريخ تونسَ الخضراء وحسب، وإنّما في العالم العربيّ كلّه الذي كان يرزح تحت نير الاستعمار.
وما كان أروعَك في " إلى طغاة العالم" حيث تجاوزت التخوم القوميّة فخاطبت كلّ
طاغية في الكون وأكّدت له أنّ عاقبة طغيانه يستحيل أن تكون غير سيّئة:
سيجرفك السيلُ، سيل الدماء ويأكلك العاصف المشتعلْ
لقد كنتَ قصير النفَس؛ توقّعت أن يهبّ شعبُك، بين ليلة وضحاها، هبّةَ رجلٍ واحد، ويحقّق أحلامَه بالتحرير والتحرّر " فلا بدَّ أن يستجيب القدر"، ولكنّك فوجئت ببطء التجاوب، وأعلنْت صراحةً يأسَك من شعبك الذي لم يتذوّق خمرة إيمانك به، ولم يتبعك كما يُتبع الأنبياء. ألم تقل في " النبيّ المجهول" مخاطبًا شعبك:
إنّني ذاهبٌ إلى الغاب يا شعبي لأقضي الحياة وحدي بيأسي
إنّني ذاهب إلى الغاب علّي في صميم الغابات أدفن بؤسي
ثمّ أنساك ما استطعت، فما أنت بأهل لخمرتي ولكأسي
صديقي، أبا القاسم
لقد تحرّرت بلادنا من الاستعمار بفضل نضالات كثيرة، وثورات قدّمت الجزائر، وحدها، فيها أكثر من مليون شهيد، ولكنّ هذه البلاد لم تصل إلى شاطئ الأمان. وفيها يعشّش الفسادُ الذي ينخر أجهزتها وإداراتها، ويستوطن في عقول سياسيّيها ومسؤولي سلطاتها، التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة، التي يتوارث الكثير من كراسيّها الأبناءُ عن آبائهم، وكأنّها أوقافٌ ذرّيّةٌ لهم لا جدالَ في حقِّهم بامتلاكها…
لن أسترسل في حديثي عن الذين يعيشون تحت خطّ الفقر، في هذه البلدان، ولن أتطرّق إلى الهدر والرشوة وانعدام الشفافيّة، ولن أُحدّثك عن ملايين الأمّيّين، وعن جيوش العاطلين عن العمل، وعن الاتّجار بالبشر، وعن وعن… فأحاديث كهذه توجع القلب، وقلبُك كما نعلم رقيقٌ، ضعيف… وإنّي على ثقة بأنّ " محمّد البوعزيزي" نقل لك صورةً فيها الكثير من الصدق، ومن اليأس.
- تريد أن تقول: إنّ كلّ ما فعلته أضحى هباءً منثورًا، ولم يعد صالحًا للاستعمال البشريّ؟
- لا، مطلقًا، بل أريد أن أقول: إنّ ذهن جمهورك غليظ، لم يستوعب بعد الدروس التي ألقيتها عليه. لذا، أدعوك إلى الانتظار طويلًا، فالدهر…
- ولِمَ أيقظتني، وعكّرت عليّ" غفوةَ رمسي"؟
- لأنّني أريد أن أُهنّئَك بيوم ميلادك، ولأنّني بحاجة إلى نصيحة أخيرة، علّها توقظ النائمين.
- حسنًا، لا تُغفل قصيدتي" نشيد الجبّار، أو هكذا غنّى پروميثيوس"، واعمل على نشرها، وتقريظها، علّها تفعل فعلها…
- لا تنسَ أن تسلّم لي على جبران.
- والآن، دعني أرقد بسلام.
*** من كتابي" في مثل هذا اليوم" _ دار سائر المشرق (٢٠١٩)