#الثائر
كتب د. دريد سريوي
هذه أمي في الرابعة والثمانين من عمرها، أطال الله في أعمار أمهاتكم جميعاً.
تبدو في نظري من أجمل مخلوقات الأرض والسماء، ومن الملائكة والمرسلين.
ما أتعبت نفسها مآسي الحياة، وما بدلت ذاكرتها الأعوام والسنين.
تقص على مسمعي أيام طفولتها وصباها، وسِيَرُ القرويين الطيبة. وكثيراً ما تُحدثني عن والدها ووالدتها واخوتها، وفي أحيان كثيرة يأخذني العجب، من مدى إعجابها ومحبتها لهم. وكلما أرادت أن تستشهد بأمر، تقول لي: هكذا كان يقول والدي، وهكذا كان يفكر، وهكذا كان يفعل. وعندما تتحدث عن والدتها تمتلئ بالفرح والسرور.
وتُمضي ساعات في ذلك تُخبرني، كم تعلمت من والدتها عن الحياة ومشاغلها.
والآن قد خفت حركتها وثقلت همتها وقلت مشاغلها. تجلس في زاوية الغرفة تفكر في ماضي حياتها، وتحاول استرجاع ذكرياتها الجميلة.
لكن أحاديثها لا تلبث أن تنقلب إلى أخبار حزينة، في كثير من الأحيان. فالإنسان حين يبلغ من العمر مداه، وتقصر مسافاته، وتقل مساحاته، تنتابه مفاعيل الحسرة والتفجع على أيام أَفَلت. فمرة تقصّ عليَّ حكايات قديمة، ومرة تحاول إرشادي بالمواعظ والحكم. وفي أحيان كثيرة تحاول تذكيري ببعض المناسبات التي مضى عليها زمن طويل. فمثلاً منها يوم وقعت وكسرت يدي. فأخذتني إلى مُجَبّرٍ يمتهن الطب العربي، والمداواة بالأعشاب. فبعد أن مَطَّلَ يدي بالماء والصابون، بَلَل قطعةً من القماش بالخل والملح، وأحكم ربطها على قطعتين من الخشب. وقال في زهو وإعجاب الشافي الله.
ولم يهدأ الوجع لأيام طويلة، فكان نهاري جهاداً وليلي سهاداً. وحتى يكتمل شفائي نَذَرت أمي إلى مقام النبي بعض النقود، وعدداً من الشموع.
وكانت الطريق الى المقام في ذلك الحين، تتطلب مسير ساعات مشياً على الأقدام، نظراً لوعورة الطريق. فاقترحت عليها جارتنا أن نذهب برفقتها، وتأخذ معها الدَابة، حتى نُحَمِّل عليها بعض الأغراض.
وكم كان سروري عظيماً بذلك.
وفي الصباح الباكر انطلقنا نحن الثلاثة، وعلى غير موعد، التقينا ببعض الأهالي، فطاب لهم مرافقتنا. إذ كان فصل الربيع ببدايته، والأشغال قليلة وفيه تحلو الطبيعية وتشتاق الأنفس إلى القليل من الترفيه والتنزه.
ولم نتجاوز القرية إلا وأصبح عديدنا العشرات، وكل واحد يحمل من المأكل والمشرب ما لذ وطاب، وأصبح النذر الذي أرادت أمي ايفاءَه زيارة لأهل القرية كبيرهم وصغيرهم.
وحتى اليوم هناك من يستذكر تلك الأيام الجميلة ويتحسر على انقضائها...
وإذا شَعَرَت أنني مللت من تلك الذكريات. تحكي لي حكاية الفلاح الفصيح، وحكاية طير البحر، وحكايات المكاري، وغيرها الكثير. وفي أحيان تردد أبياتاً شعرية للزير سالم وعنتر بن شداد وأبو زيد الهلالي وغيرهم. إضافة إلى ردات شِعْرٍ قالها بعض القرويين في مناسبات مختلفة...
ويا للعجب! تمتلك من الفطنة والحكمة ما يُدهشني في أحيان كثيرة. وبشكل خاص، أنها تذكر كُلَ شاردةٍ وواردة، وأي حديث أو أمرٍ يمر على مَسامعها لمرة واحدة، تحفظه ولا تنساه، مهما مَرَّ من الأعوام والسنين.
واليوم، نحن في شهر كانون الثاني، أقسى أشهر السنة برداً وثلجاً. ففيه تأخذ العواصف من غضب الطبيعية كل مأخذ، فما تلبث أن تنقضي واحدة إلا وتُسَلِمُ على أخرى. فيحلو الجلوس في المنزل وأخذ قسط من الراحة، ومن عناء التعب والهموم والمشاغل الحياتية.
وحين ينتصف الليل، لا يلبث أن يخيم علينا جو من السكون والهدوء، حين تَصمت أمي ويغلب على أجفانها النعاس...
وأنا في زاوية أخرى من تلك الغرفة، أشعر بالملل والإحباط واليأس والقنوط.
لا كهرباء، ولا زيت في سراج، ولا قنديل فيروز احتفظت به لمثل هذه الليالي الكالحة. فشتاءُ هذا العام يختلف عن غيره من الأعوام الماضية، ليس ببرده وأمطاره وثلوجه. بل بما أحسه وأشعر به. وما ينتابني من مشاعر الوحدة والانفراد. والريحٌ تهز باب المدخل الرئيسي تريد أن تقتلعه من مكانه، والنوافذ تصفر من ثقوبها الخشبية المتهالكة، وليلة حالكة الظلام.
وبين الحين والآخر أحاول أن أسترق النظر نحو البعيد، فلا أرى إلا نُدَفَ الثلج القريب من نافذة حجرتنا الصغيرة. وعلى وجه الأرض ألمح في بعض الأحيان غصون أشجار الزيتون المثقلة بأحمالها، مائلة أو متكسرة.
وإلى جانب الموقد تلتف هرة مرقطة، تستدفئ، وتُقَرْقِرُ بين الحين والآخر، بعض أصوات متناسقة متناغمة اللحن والمعنى.
وفي الموقد حطبات نحيلات، تلحس أبدانهن نارٌ خفيفة، تحتهن جمراتٍ ضاحكاتٍ من اللهب وسط رماد تَجَّمع في الأسفل.
وفي بعض الأحيان أحاول استماع أصواتٍ أو وشوشات أو ضحكات، لقاطني تلك المنازل المجاورة، كي استأنس وأُبعدَ شبح الرَهْبَة المحيط بنا.
فلا يتناهى إلى مسامعي سوى صوت العاصفة الغضوب ...
وحين تَمِلُ أجفاني من السهر، وتتعب مخيلتي من السمر، أذهب إلى فراشي، قائلا في نفسي. هنيئاً لمن لديه فراش دافئ في مثل هذا الليل الطويل، في مثل هذه العاصفة. وأغطُ في نوم عميق، غافلاً شارداً عما حولي من غضب الطبيعية واجتماع العناصر، كمن لا هم لديه...