#الثائر
- " د. منصور اشتي "**
يقول ابن خلدون: "... أما ظلم السلطان فهو أشمل وغير مقدور على ردِّه وهو المؤذِنْ بالخراب".
منذ القِدَم، الحضارات والشعوب المتعاقبة تعيش الهواجس والمعاناة الإنسانية ذاتها. ويعود ذلك الى أمرين: الأول، تراكم التاريخ في أذهان القادة والحكّام المتجبِّرين، والثاني تحكّم الجغرافيا بين الجماعات الإثنية والعرقية واللغوية، وبين الدول والحضارات المتجاورة، بغض النظر ان كانت متوافقة أم متنابذة. وأخطر ما في الأمر ان يعيش الحاكم في وهم الماضي، دون ان ينظر الى اختلاف الواقع والظروف لكل مرحلة زمنية، كما للتغيير والتطور الحاصل باستمرار في صيرورة الكون ومسيرة الحياة البشرية.
التاريخ في الحقيقة كما قال الإمام الغزالي، "يُعلِّم الإنسان دروساً، ويجعله أكثر وعياً وأقدر على اتخاذ القرارات والخطوات المناسبة"، ولعمري ان هذا القول يجب ان يُدرَّس لكل من يريد ان يتبوّأ السلطة في العالم، من باب تنبيهه الى عدم ضياعه في الغرور وجنون العظمة، وتحكُّم أنانيته به بعيداً عن الحكمة والتبصُّر ورشادة الرأي. فمن يسيطر عليه ثقل التاريخ يودي به الى الهلاك، وبشعبه الى الحروب والدمار، وكم من القادة والمفكرين لم يقرأ هذه الحكمة بتمعُّن. من جهةٍ ثانية كم من الحكام كان أسير حنينه للماضي، وكان سبباً في دمار هائل للبشرية جمعاء، وخير شاهد على ذلك "أدولف هتلر" حيث أدت أفكاره وطموحاته وغروره الى حرب عالمية مدمِّرة، ما زالت نتائجها الكارثية، المادية والنفسية ماثلة أمامنا حتى اليوم، وكأنه كُتِب على شعوبنا ان تعيشَ صراعات الماضي وويلاتَها. وما أشبه اليوم بالأمس بوجود هكذا قادة، كالرئيس الروسي فلاديمير بوتين الغارق في عظمة الماضي للإمبراطورية الروسيّة، والمتسلِّح بترسانته الحربية الهائلة، غير آبِهْ بالنتائج الكارثيّة التي يمكن ان تحصل للعالم أجمع في حال بقائه على عناده، وفي حال قرّر إستعمال اسلحة الدمار الشامل في حربه ضد أوكرانيا. فمصير البشريّة مُعَلّق على شخصٍ لا نعلم مستوى تفكيره وصوابيته، ولا وضعه النفسي، ففي انتصاره على أوكرانيا كارثة وفي انهزامه كارثة أكبر.
وكما للتاريخ تأثيره في حياة الشعوب واستقرار الدول وازدهارها، كذلك للجغرافيا، فالعديد من دول العالم تعيش "لعنة الجغرافيا"، في عالم يحكمه القوي والطامع والمستبِدّ، وكم من شعب عانى وما زال يعاني بحُكم تواجده في منطقة لها أهميتها الجيوسياسية، وتأثيرها الإقتصادي والسياسي الإقليمي والدولي، ان كان من حيث إستراتيجيّة الموقع أو الغنى بالموارد الطبيعية، أو التنوع الإثني والعرقي واللغوي، ما يجعل منها هدفاً للدول الكبرى السّاعية الى التوسع والسيطرة. وقد شكّل البر الأوروبي وعلى مر العصور نقطة جذب للعديد من القادة والجيوش، فمن يسيطر عليه يتحكّم بالعالم، بحسب رأي العديد من المفكرين الإستراتيجيين كـ(ماكيندر وماهان وسبايكن)، وقد ظهرت الكثير من النظريات حول أهمية السيطرة عليه وخاصة على "قلبه" أي روسيا. والحرب الروسية على أوكرانيا متصلة بعمقها بأهميّة موقعها الجغرافي الإستراتيجي، أي بتلك الأفكار والطموحات والإستراتيجيات، وباحلام وحنين العودة الى أمجاد الماضي.
أما منطقة الشرق الأوسط، إضافة الى كون الرسائل السماوية الثلاث نزلت فيها، غير انها منطقة يتحكَّم بها موقعها الجغرافي_ حتى ما بين دولها_ فمنهم من يعتبرها صلة وصل بين الشرق والغرب، ومصدِّرة للحرف منذ آلاف السنين، ومنهم من يعتبرها بوابة الإقتصاد والثرّوة والتحكُّم باقتصاد العالم وتجارته، وخاصّة بعد اكتشاف النفط فيها، في مطلع القرن العشرين. هذا الإرث الثقيل ما زال يحدد حاضر ومستقبل شعوبها ودولها، سلاماً كان أم حروباً ودمارا. إن منطقة الشرق الأوسط وعلى مرّْ العصور عانت عدم الإستقرار ودوام الأزمات، وتحكُّم المشاريع الإستعمارية بماضيها وحاضرها وحتى بمستقبلها القاتم. ويأتي لبنان من ضمن الدول التي يعيش لعنة موقعه الجغرافي، قرب جارٍ لا يضمر له الخير، وعدوٍ صهيونيّ مجرمٍ يسعى الى تفتيته وتدميره بشتى الوسائل، كما يعيش أزمة طموحات إقليمية وحتى دولية تستغّله موقعاً لمشاريعها الإستراتيجية الكبرى، ولتحقيق مصالحها الذاتيّة، غير آبهة بأمنه واستقراره وحتى ببقائه.
يجب قراءة التاريخ لأخذ العبر، أما الجغرافية فهي هبة من الله لخلقه، للعيش عليها والتمتع بثرواتها بسلام وأمان وتسامح، فالحفاظ على كوكب الأرض واجب إنساني. العالم اليوم، أكثر من أي وقت مضى بحاجة الى قادة حكماء وعقلانيين، والى مؤسسات دولية فاعلة ومؤثّرة تستدرك الأخطار القادِمة وتعمل على منعها، وعلى تسوية النزاعات بالطرق الديبلوماسية والسلمية. وفي الختام يتبادر لنا العديد من الأسئلة:
- إلى أين ستقود نزعة بوتين القوميّة وإصراره الإنتصار على أوكرانية، ومن خلفها على الغرب؟
- وهل سيتفاجأ العالم في يومٍ ما باستعمال الأسلحة النووية، وتكون نهاية حضارتنا البشرية؟
المستقبل غير مُطمّْئن.
**عقيد ركن متقاعد
ملاحظة: ====== "الثائر" غير مسؤولة عن الآراء الموجودة في خانة "مقالات وأراء"، بل هي تعبّر عن رأي كاتبها، وتم نشرها بناءً على طلب الكاتب.=========