#الثائر
أصبح "البحر الأبيض المتوسط" أكبر "قاتل" في العالم. ضحاياه الموثقون، منذ العام 2014 تخطوا عتبة الخمسة وعشرين ألف شخص، وهم يحملون جنسيات "دول المعاناة"، ويحلمون بالانتقال الى الضفة الأخرى من العالم، عبر نقاط تهريب أشهرها في ليبيا وتونس ولبنان.
وإلى هؤلاء الضحايا ينتسب اللبنانيون والسوريون الذين جرى إغراق قاربهم قبالة شاطئ طرابلس، أخيراً، ولا تزال جثث بعضهم عالقة على عمق أربعمئة متر في البحر.
لا أحد بريء من دم هؤلاء. السلطات المعنية سواء في الدول التي منها تنطلق "قوارب الموت" أو التي تريد الوصول إليها، تستسهل حصر الاتّهام بـ"جشع المهرّبين"، لكنّ الجميع يعرف أنّ المشكلة أعمق من ذلك بكثير، إذ إنّ الدول التي تُصدّر أبناءها، في إطار الهجرة غير الشرعية، غالبيتها محكومة إمّا بالحرب أو الفوضى أو الديكتاتورية أو التفقير الممنهج، في حين أنّ الدول التي ينظر إليها "الهاربون" من جحيمهم كما لو كانت فردوساً، تبذل الغالي والنفيس، لتحول دون وصول هؤلاء اليها، غير آبهة بموتهم أو حتى بقتلهم.
الوقائع التي دفعت الفرنسي فابريس ليجيري، رئيس "الوكالة الأوروبية لحماية الحدود البحرية والبرّية" (فرونتكس)، إلى الاستقالة، قبل أيّام، تفضح بعض هذه الحقائق الإنسانية المرّة، لأنّها أتت بعد سلسلة تقارير موثّقة تُبيّن أنّ "بوّابات" الاتّحاد الأوروبي البحرية، تخرق، من أجل التخلّص من المهاجرين غير الشرعيين، جميع القوانين والمعاهدات الدولية التي تُعنى بشؤونهم، كإقدام خفر السواحل الموجودين في اليونان، بصورة سرّية، على إعادة رمي المجموعات التي تتمكّن من الوصول الى برّها، في البحر، منتهكة واجباتها في استضافة هؤلاء والبحث في مدى جدّية الأسباب التي دفعتهم الى الهرب من دولهم، بهذه الوسيلة المحفوفة بالخطر.
وتعرّضت المنظّمات غير الحكومية التي تُعنى بشؤون المهاجرين غير الشرعيين لتحدّيات كبيرة في السنوات القليلة الماضية، بحيث تعاطت معها دول أوروبية، كحالة إيطاليا مثلاً، كما لو كانت متواطئة مع المهرّبين، بحيث سجنت مسؤولين فيها ومنعت بواخرها الإنقاذية من الإبحار في محاولة لإنقاذ مهاجرين تتعرّض قواربهم لمخاطر الغرق، الأمر الذي أدّى الى موت المئات بينهم الكثير من النساء والأطفال.
ويُعتقد على نطاق واسع في أوروبا أنّ الأجهزة المعنية بمكافحة الهجرة غير الشرعية في الاتحاد الأوروبي عقدت اتفاقات سريّة مع "خفر السواحل" في الدول التي تنطلق منها قوارب المهاجرين، تضمّنت الكثير من الحوافز، من أجل منع المهاجرين من العبور الى المياه الدولية، وصدّهم، بكل ما يلزم من قوّة، قبل الخروج من المياه الإقليمية لدول الانطلاق.
وهذا يعني أنّ الوحدات التابعة لـ"خفر السواحل" في "دول الانطلاق"، إذا شاءت أن تلتزم بهذا التفاهم مع "دول الوصول"، ولم تكن قد تلقّت التدريبات اللازمة والكافية وخضعت لمناورات معقّدة، قد تغامر بإغراق كثيرين ممّن يستقلّون "قوارب الهرب"، تماماً مثلما حصل قبالة شاطئ طرابلس قبل أياّم وكما يحصل في المياه الإقليمية لكل من ليبيا وتونس، في كثير من الأحيان.
وقد أدّى هذا النّهج الى ارتفاع مضطرد في عدد ضحايا "قوارب الهرب"، من دون أن يردع الراغبين في الهجرة من دولهم عن اللحاق بركب المغامرة.
وليس سرّاً أنّ المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام التي يموّلها "الاتحاد الأوروبي" تمتنع عن تناول كلّ أوجه هذه المسألة الإنسانية التي تحتاج الى عناية خاصة، في حين تجدها تصب اهتمامها على أمور أقل خطورة وتصل، في بعض الأحيان، إلى مستويات سخيفة بالمقارنة مع شجون المجتمع الذي تُحاول التأثير فيه.
صحيح أنّ "الاتّحاد الأوروبي" يعاني من الهجرة غير الشرعية التي بدأت تنعكس سلباً على نظامه السياسي - إذ إنّ اليمين المتطرّف بدأ يكسب بمعاداته لهذه الهجرة شرائح واسعة من المجتمع الذي يعمل فيه، كما هي عليه الحال في السويد، مثلاً، حيث ارتفعت الحصة الانتخابية لليمين المتطرّف في هذه الدولة التي كانت في موضوع الهجرة الأكثر استضافة وتسامحاً، من واحد ونصف بالمئة في العام 2002 الى سبعة عشر ونصف بالمئة في العام 2018 - ولكنّ الصحيح أيضاً أنّ هذه الهجرة لا تنبع من الرغبة بل من الحاجة، ذلك أنّ الدول التي تدفع مواطنيها الى الهجرة تتحكّم بها أنظمة فاسدة وديكتاتورية، إمّا مدعومة من المجتمع الدولي، سواء مباشرة أو بالصمت، وإمّا تتناحر في جغرافيتها دول كبرى، دفاعاً عن مصالحها.
المؤكّد أنّ كثيراً من مواطني "دول المعاناة" لن يتوقّفوا عن تسجيل أنفسهم وعائلاتهم في قائمة المهاجرين غير الشرعيين، طالما اعتبروا أنّ مخاطر البحر عليهم أقلّ من مخاطر البقاء حيث هم، ولذلك فإنّ الحل ليس في تخييرهم بين أن يكونوا وقوداً لأنظمتهم أو فرائس للبحر، بل في أن يعمل الجميع، تتقدّمهم الدول المتأذّية من الهجرة غير الشرعية، على بذل كلّ ما يلزم لمساعدة من يريد تحرير الدول المهجّرة لأبنائها من أنظمتها الديكتاتورية ومن طبقتها السياسية الفاسدة.
المركزية -