#الثائر
== خاص==خاص===
- " ظافر مراد "
ينتظر العالم نتيجة التفاوض الروسي-الأوكراني على الحدود مع بيلا روسيا، والجميع يعلم أن هذا التفاوض يبدو في وجهه العلني مجرد مواقف وشروط عالية السقف عند الطرفين، وفي الحقيقة أن لا أحد يدري كيف تسير المفاوضات الفعلية، حيث يُدرك الجميع أن الطرفان المتواجهان يعيشان أزمة غير مسبوقة، ويبدو أنهما في نفس الوقت "يرقصان على حافية الهاوية"، ويعتقد معظم الخبراء أن هذه المفاوضات لن تؤدي إلى نتيجة، فالطرفان ينتظران ظروفاً أفضل تدعم مواقفهما لإستكمالها لاحقاً.
في خضم هذه الوضع، يستمر الغرب بإرسال الأسلحة الفتاكة للأوكرانيين لدعم صمودهم في وجه الآلة العسكرية الروسية المرعبة، والجميع يعلم أن هذا لا يكفي، بل إنه مجرد موقف سياسي أكثر منه عسكري، بينما في الجهة المقابلة، تقف القوات الروسية على مشارف العاصمة كييف بإنتظار الأوامر بإقتحامها أو السيطرة على مراكز ومرافق الدولة الأساسية فيها، عبر إنزال القوات الخاصة في النقاط الإستراتيجية الهامة، بالتزامن مع إقتحام بري للشوارع الرئيسية فيها. أما لماذا تعتبر معركة كييف العاصمة هي المعركة المفصلية في هذا الصراع؟ فهذا ما سنوجزه في ما يلي.
تمثِّل العاصمة في المفهوم الوطني، أحد رموز الدولة وفسحة ثقافتها وحضارتها، وفي العلاقات الدولية تمثل رمز الدولة السياسي، حيث يكون فيها مقر الحاكم أو الرئيس، وتكون فيها جميع أو أغلبية المقرات الحكومية الرسمية ودوائر صنع القرار والمقرات الهامة كالبنك المركزي والبرلمان والمؤسسات الجامعية والطبية والثقافية، وتتمتع العواصم عادة ببنى تحتية تكون الأكثر تطوراً في البلد، حيث أنها تعكس مستوى رفاهية ورقي الشعوب وإسلوب حياتها، أما بالنسبة للمواطنين، فالعاصمة تمثل الهوية والقيمة المعنوية والوطنية، هي التي تضم في شوارعها وثنايا معالمها وأبنيتها التراث التاريخي والحضاري والثقافي لأي شعب، لذلك تعتبر العاصمة رمز سيادة الدولة ويعتبر الدفاع عنها مصلحة مصيرية لأن سقوطها يمثل سقوط الدولة.
يؤكد التاريخ العسكري القديم والحديث، أهمية إحتلال أو حصار العواصم لفرض الشروط العسكرية والسياسية على الخصم، ويعتبر الوصول الى هذه المرحلة مفصل أساسي في الصراع، حيث أن شروط التفاوض ومؤشرات الإنتصار تصبح مؤكدة، وبالتالي على المهزوم عندها القبول بشروط المنتصر.
مع الوقت، ومع تغير ظروف وأنواع الصراعات وأساليب القتال والمواجهات، أصبح إحتلال العواصم أو مجرد حصارها، يشكل عبئاً عسكرياً كبيراً على القوات، لما يتطلبه من وقت وجهد، وما يترتب عليه من خسارات بالأرواح والعتاد والممتلكات، وربما لم يعد مجدياً إعتماد هذه الإستراتيجية لإخضاع الخصم ، فهناك صعوبات كثيرة تعترض مراحل التنفيذ المتمثلة بأربعة مراحل أساسية وهي :
-أولاً : التوغل بعمق أراضي العدو والتمكن من الوصول الى مشارف عاصمته، وهذا يتطلب كم كبير من القوات ووقت طويل للتنفيذ.
- ثانياً : تطويق العاصمة وإحكام الحصار عليها لإخضاع السلطة السياسية، وهذا يفرض السيطرة على مساحات واسعة في محيط العاصمة، وإقفال كافة المنافذ البرية والبحرية والجوية.
- ثالثاً : إقتحام العاصمة وإحتلالها في حال فشل إخضاع السلطة السياسية، وهذا يترتب عليه الكثير من الدمار والضحايا وإهدار الوقت.
- رابعاً : التحدى الاكبر والذي يتمثل بالسيطرة على العاصمة وتأمين سلامة القوات داخلها وفرض الإستقرار، وهنا تدخل الجيوش التقليدية في مواجهات مع المقاومات وتُفرض عليها حرب غير متماثلة تستنزف قواها، ويصبح الوقت في غير صالحها.
في الواقع لا يشكل إحتلال أو حصار العواصم هدفاً سياسياً وعسكرياً فقط، بل يتجاوز ذلك ليمثل نزعة لإرضاء الحاجات المعنوية والنفسية للقادة العسكريين والسياسيين، وفي الصراع الحالي نستطيع القول أن الجيش الروسي إستكمل المرحلة الثانية من حملته، حيث تم تطويق العاصمة وإحكام الحصار عليها، وهنا يجب الإشارة إلى التضليل الغربي المستمر في شأن سير المعارك، والذي يعتبر أن وقف تقدم الجيش الروسي على مشارف كييف، هو إنتصار مهم، وإن الوقت سيسير لصالح الجيش الأوكراني الذي يقاوم ببسالة، وهذا الكلام لا يمكن قبوله عند الخبراء العسكريين، فالمرحلة الثانية من الحملة الروسية، تستهدف العاصمة كييف، وإن وقف التقدم الروسي هو مرحلة أساسية في الحملات الكبرى، يُطلق عليها تسمية "وقفة عملياتية" وتستمر من يومين إلى خمسة أيام، وتهدف إلى زج النسق الثاني من القوات، والذي يكون حجمه هائلاً، إضافة إلى إستكمال التحضيرات اللوجستية ومتطلبات الدعم الناري لهذه المعركة، والذي يضم مئات المدافع وراجمات الصواريخ وقوات الدعم الجوي القريب. حيث يتم تركيزها في الأماكن المناسبة قبل البدء بالمرحلة الثانية من الحملة.
يعلم الجميع أن الرئيس الروسي لن يتراجع في هذه المعركة، وهو الذي إختار توقيتها الآن قبل الغد، معتبراً أن الوقت ليس في صالحه، في مواجهة لا بد منها لمنع التهديد الذي يمثله الوجود العسكري للغرب في الأراضي الأوكرانية، وعلى مقربة من العاصمة الروسية موسكو، وهو قد أعلن بصريح العبارة أنه "إذا كانت روسيا ستزول، فلا جدوى وأهمية لبقاء العالم من بعدها". مؤكداً أن هدفه هو إجتثاث النازية المتجددة في أوكرانيا، في إشارة واضحة لما تعانية الأقلية الروسية في هذا البلد، معتبراً أن للصراع خلفيات قومية أججها الغرب ضد المواطنين الروس.
إبان الحرب العالمية الثانية، وفي أوج الصراع بين أقوى أيديولوجيتين في أوروبا، النازية والشيوعية، وضع ستالين نصب عينيه هدف إحتلال برلين عاصمة ألمانيا النازية منذ بدء إنتصاره في معركة ستالينغراد، ونفذ فيها إنتقامه من هتلر بهجوم كاسح ومدمر بعدد كبير من الفرق وبقوة نارية هائلة، حيث تمت محاصرة المدينة وعزلها قبل إقتحامها، وقد سميت معركة الأدلة المفقودة لأنه منع على أي أحد توثيق ما جرى.
أثناء إجتياح لبنان عام 1982 اعترف العدو الإسرائيلي بعد وقت، بأن خطة إحتلال بيروت ، كانت مسبقة وليست وليدة تسلسل الأحداث، وقد استغل الواقع العسكري وظروف المواجهة مع منظمة التحرير الفلسطينية، إضافة للظروف الدولية المؤاتية، للإقتصاص من العاصمة العربية الاولى التي حضنت حركات التحرر الفكري وقضايا الأمة العربية وبالأخص القضية الفلسطينية، وإعترف ايضاً بأنه كان من الصعب جداً تأمين إستقرار وأمان قواته داخل هذه المدينة، ما أجبره لاحقاً على الإنسحاب خارجها.
يبقى أخيراً أن نشير الى أن حصار العواصم أو إحتلالها لم يعد يقتصر على العمل العسكري فقط، ، فهناك أدوات وأساليب أخرى مثل الأزمات السياسية والإجتماعية المفتعلة، وإغراق شوارعها بمظاهر البؤس والفوضى والشعور بعدم الأمان، أما أخطر هذه الأساليب فهو نشر التطرف والأيديولوجيات المفروضة التي تضرب كل الحريات والتنوع الثقافي والحضاري، فتغير لون وإسلوب الحياة فيها لتجعله أسوداً قاتماً، وتصبح العاصمة عندها رمزاً للتخلف والتوحش، تعكس صورة غير حقيقية عن رقي وثقافة معظم سكانها.
يبدو أن أياماً سوداء وقاتمة تنتظر الأوكرانيين، ومزيداً من القتال والتدمير ينتظر الجيشين الأوكراني والروسي، فكلاهما يعرف مدى الخطر القادم، ولكن تبقى الإرادة السياسية عند قياداتهما هي صاحبة القرار، ولا يبدو حالياً أن هناك بوادر حلولٍ حاسمة ومجدية.
يُرج الحفاظ على حقوق الملكية الفكرية عند نسخ أي شيء من مضمون الخبر وضرورة ذكر اسم موقع «الثائر» الالكتروني وإرفاقه برابط الخبر تحت طائلة الملاحقة القانونية.