#الثائر
- " د. ناصر زيدان "
بعد أن اجتازت محطات تصالحية وازنة منذ مطلع شباط (فبراير) 2021، تتحضَّر ليبيا للانتخابات التشريعية والرئاسية التي ستجري في 24 كانون الأول (ديسمبر) 2021، وهي المرة الأولى التي تحصل فيها عملية انتخاب رئيس للدولة في تاريخها. والمجتمع العربي والدولي الذي واكب خطوات الحل منذ أن تمَّ الاتفاق على وقف شامل لإطلاق النار في تشرين الأول (أكتوبر) 2020، سيشارك من خلال مجموعة الدول الفاعلة والمحيطة بليبيا في مؤتمر برلين - 2 الذي سيعقد في العاصمة الألمانية في 23 حزيران (يونيو) الجاري، ومهمة هذا المؤتمر وضع آلية واضحة وصارمة لإنجاح الاستحقاق الديموقراطي، كما سيناقش المجتمعون موضوع خروج المسلحين غير الليبيين من البلاد وتسليم أسلحتهم للقوى الشرعية، وسيضع المؤتمرون خطة لتوحيد القوى المسلحة النظامية.
نجحت الأجندة الوفاقية التي رعتها الأمم المتحدة حتى الآن. ومجموع القوى السياسية والقبائلية والجمعيات المتنوعة استنكرت العمل التفجيري الإرهابي الذي استهدف موقعاً عسكرياً في السادس من حزيران (يونيو) 2021 في جوار مدينة سبها وسط البلاد، وهؤلاء رفضوا دعم أي أعمال مخلِّة بالأمن، وأكدوا احترام اتفاق وقف إطلاق النار الشامل. لكن إعلان "داعش" الغامض عن مسؤوليته عن التفجير، أعاد إلى الأذهان سيناريوات حصلت سابقاً في العراق وسوريا، بحيث بدا لاحقاً أن أجهزة مخابراتية تابعة لدول فاعلة، كانت تقوم بمثل هذه الأعمال، ونسبها لـ "القاعدة" أو "داعش" الإرهابيين، رغم أن إمكان أن يكون هذا التنظيم وراء تفجير سبها فرضية واقعية وغير مستبعدة.
كل الدول الكبرى من الشرق ومن الغرب، أيدت مسيرة الحل في ليبيا بعد اضطرابات استمرت ما يقرُب من العشر سنوات، بما في ذلك تركيا وروسيا اللتين كانتا على خلاف في التعاطي مع الوضع في ليبيا، بحيث دعمت أنقرة بقوة حكومة الوفاق التي كان يسيطر عليها "الإخوان" في طرابلس، بينما وقفت موسكو الى جانب الفريق خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي الذي يسيطر على غالبية مساحة البلاد. وقد دعمت جامعة الدول العربية الحكومة الموحدة التي شكلها عبدالحميد الدبيبة مطلع شباط (فبراير) الماضي، وأيدت المجلس الرئاسي الذي يقوده محمد المنفي، وأعترفت دول الجامعة بمشروعية المؤسستين الدستوريتين اللتين تقودان البلاد حالياً، في انتظار انتخاب رئيس للدولة ومجلس نواب في 24 كانون الاول (ديسمبر) 2021 كما هو مقرر.
بدأت أصداء التحضيرات للاستحقاق الرئاسي تفعل فعلها في الوسط السياسي والشعبي في ليبيا. فالبلاد واسعة ومترامية الأطراف جغرافياً، ومتنوعة القبائل والإثنيات سكانياً، وفيها صراع تاريخي قديم بين الشرق والغرب والجنوب قبل أن تتوحد على يد الملك إدريس السنوسي في عام 1951 وكانت لا تزال مناطق نفوذ للبريطانيين والإيطاليين والفرنسيين، وهي اليوم خارجة من نزاع مسلَّح وفوضى بدءاً منذ العام 2011.
ليبيا لم تمر بتجربة إنتخابات رئاسية من قبل، لأن العقيد الراحل معمر القذافي حكم البلاد كرئيس مجلس قيادة الثورة خلال أكثر من أربعين عاماً، عاونته مجموعة من الضباط، وأدار مؤسسات الدولة بواسطة لجان شعبية مركزية ومناطقية غلبت على أعمالها الفوضى، وهذه اللجان لم تعتمد طريقة الاقتراع التقليدية في الصناديق لاختيار المسؤولين، بل ابتكرت ما سُميَّ بالتصعيد الثوري - أي رفع مكانة رموز النظام الى السلطة بواسطة اجتماعات شعبية لا تتوافر فيها حرية الاختيار - لكن النظام السابق كان يعتمد طريقة لتوزيع المناصب الكبرى تأخذ في الاعتبار التمثيل الجهوي والمناطقي والقبلي.
إختيار يوم 24 كانون الأول (ديسمبر) 2021 لإجراء الإنتخابات الرئاسية ليس مصادفة؛ حيث في هذا اليوم أعلن توحيد البلاد قبل 70 عاماً، بعد أن كانت تتألف من ثلاثة أقاليم (أقليم برقة في الشرق وإقليم طرابلس في الوسط والغرب وإقليم فزان في الجنوب). والمؤشرات التي توضَّحت عن الترشيحات حتى اليوم، تؤكد حصول تباينات مختلفة تخفي بعض الانقسامات الموروثة. كما أن فئات ثلاث صغيرة من مكونات الشعب الليبي (الطوارق والأمازيغ والتبوّ - حوالى 15 في المئة من السكان) ما زالت تعترض على الظلم الذي لحق بها في دستور العام 2017، لأنه لم يأخذ بالإعتبار ضرورة تمثيلهم واحترام خصوصية ثقافتهم في شكل عادل، وسيكون لموقفهم تأثير في الانتخابات المقبلة، وربما يحمل هذا الاعتراض مخاطر أمنية إذا لم تتم معالجة مطالبهم، وهي ثغرة يمكن لأي قوى خارجية متضررة الولوج منها لتهديد الاستقرار.
يبرز حتى الآن من أسماء الذين يتحركون بهدف الترشُح للرئاسة: رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة، وهو رجل أعمال من مدينة مصراتة المهمة، والقريبة من العاصمة طرابلس، ويبدو أن منافسه الأقوى من المدينة ذاتها سيكون فتحي باشاغا، وهو وزير الداخلية السابق في حكومة الوفاق ورئيس حركة "الإخوان المسلمين" التي غيرت اسمها، واعتمدت تسمية جديدة يطلق عليها "جمعية الإحياء والتجديد". في المقابل يبرز اسم السفير السابق محمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي الانتقالي الحالي، وهو من مدينة طبرق عاصمة الشرق الليبي، او ما كان يُعرف بإقليم برقة، وربما يخرج أيضاً أحد الأسماء المحسوبة على العهد السابق، وقد يكون سيف الإسلام القذافي إذا ما أُعفي عنه، او أحد المقربين منه كوزير الخارجية السابق في الحكومة التي كانت موالية لحفتر ،عبدالهادي الحويج، وهو شاب ليبرالي ولديه عزوة قبلية وازنة.
هذه اللوحة الفُسيفسائية من المُرشحين المحتملين للرئاسة، قد تُعيد إنتاج بعض التوترات العصبية والقبلية، وربما تُهدد مسيرة السلام والاستقرار التي بدأتها البلاد منذ تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. لكن من الواضح أن هناك إرادة دولية وداخلية صارمة تُناصر مساعي الحل، وستضمن نزاهة وسلامة الاستحقاق الانتخابي المقبل.