#الثائر
- "د. ناصر زيدان "
شكّلت زيارة رئيس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرنسيس ، إلى العراق بين 5 و 8 مارس/آذار حدثاً بالغ الأهمية، كونها حملت روح وثيقة الأخوة التي وقعها فرنسيس مع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب قبل سنتين في أبوظبي، واستندت الكلمات التي ألقيت في محطات الزيارة التاريخية على مضمون الوثيقة، لناحية التأكيد على الدعوة إلى تحويل أدوات الكراهية إلى أدوات للسلام كما قال البابا، وعلى اعتبار أن مَن يؤمن بالله ليس له أعداء يقاتلهم حتى ولو اختلف معهم بالرأي.
الزيارة إلى العراق في هذا الوقت بالذات تحمل الكثير من الدلالات بسبب مجموعة من الاعتبارات التي تعطيها خصوصية واضحة. فليس مصادفة أن البابا فرنسيس الذي يحمل أثقال 84 عاماً؛ أصرّ على تنفيذ وعده على الرغم مما يحيط بذلك من مخاطر أمنية في بلد يعاني تجاوزات يومية تشمل اغتيال ناشطين وتطال مرافق حيوية وسفارات كان آخرها استهداف مطار أربيل في الشمال، وعلى الرغم من انتشار جائحة كورونا التي فتكت بصحة الملايين.
أكثر ما يثير الاهتمام بزيارة البابا هو برنامجها المكثّف والمتنوع، ووراء وضع هذا البرنامج المرهِق نية واضحة بتوجيه رسائل سياسية وروحية عدة في أكثر من اتجاه. ففي زيارته للسيد علي السيستاني تأكيد على مرجعية النجف الأشرف المتقدمة عند المسلمين الشيعة في العالم. وكان لافتاً اقتباس البابا فرنسيس لقول الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه): «الناس صنفان: إما أخوان لك في الدين أو نظراء لك في الخلق»، وبذلك إشارة إلى جوهر الفكر الإنساني للإسلام الذي هو دين تسامح وأخوة، كما المسيحية رسالة محبة وسلام.
أما الجانب الآخر من الزيارة، فقد حفل بمحطات لا تقل أهمية، منها لقاؤه مع رئيس الجمهورية ورئيسي مجلس الوزراء ومجلس النواب ومع ممثلين عن كل الطوائف الدينية العراقية، ومنها أيضاً القداس الذي ترأسه في كنيسة سيدة النجاة في بغداد؛ حيث سقط فيها 48 من أبناء الكنيسة جراء هجوم لمجموعة إرهابية على المصلين عام 2010. وقد أكد البابا وحدة العراق وعلى دوره المتقدم بين الأمم كأرض سلام وموئل للمؤمنين؛ حيث ولد على أرضه كبار من المرجعيات الروحية عبر التاريخ، لاسيما منهم النبي إبراهيم الذي يحظى بالاحترام لدى أبناء الديانات السماوية الثلاث، وقد زار البابا مكان ولادة النبي إبراهيم في بلدة أور التاريخية القديمة، تأكيد على التقاطع الروحي بين الأديان، وفي أن أرض العراق شاهدة في تاريخها على هذا التقاطع والتآخي بين المسلمين والمسيحيين ومع الذين ينتمون إلى أقليات دينية أخرى كالصابئة والإيزيديين وغيرهم.
ولعل الأكثر إثارة وخطورة؛ كانت زيارة البابا فرنسيس لمدينة الموصل في شمالي العراق؛ حيث تعرّض المسيحيون والإيزيديون في المحافظة لأبشع أنواع التنكيل على يد مجموعات «داعش» الإرهابية قبل ست سنوات.
وقد زار مدينة قرقوش المسيحية وترأس قداساً على نية أرواح الضحايا فوق أرض مجمّع الكنائس في حوش البيعة الذي دمرته «داعش»، ودعا إلى إعادة إعمار الكنائس، لأن «الرجاء أقوى من الموت والسلام أقوى من الحرب» كما قال. ومما لا شك فيه فإن البابا فرنسيس يُشير بكلامه إلى الفوضى التي ما زالت تسود في تلك البقعة المهمة من التراب العراقي. وقد كان واضحاً الاستنفار الأمني الواسع للقوات العراقية – بما في ذلك سلاح الجو - لحماية البابا في تنقلاته بسيارة مصفحة ومنعه من استخدام سيارته البابوية الخاصة، على غير ما كان عليه الحال في زيارته لمدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان؛ حيث ترأس قداساً كبيراً في الهواء الطلق شاركت فيه قيادات الإقليم وحشد كبير من المؤمنين.
التقييم الإيجابي لنتائج زيارة البابا فرنسيس إلى العراق؛ لا يعني صرف النظر نهائياً عن محاولة البعض استغلالها لمآربه الفئوية، ومن ذلك الاستغلال الغارق في التفسير الخاطئ لزيارته مدينة أور مسقط رأس النبي إبراهيم، أو سرد التحليلات غير الواقعية عن قبوله بمشاركة مجموعات من الحشد الشعبي في حمايته، فهو يرى الزيارة لأور طبيعية، وهي تنفيذاً لوعد وحلم، أما موضوع مشاركة الحشد فيحيلها مساعدو البابا إلى الحسابات السيادية الداخلية العراقية، وهي ليست بطلب منه، ولا تخفى تطلعات فاتيكانية مقصودة.