مقالات وأراء

سلطةٌ خارجَ الدولة وثورةٌ خارجَ الثوّار

2021 آذار 11
مقالات وأراء

#الثائر

كتب الوزير السابق سجعان قزي في افتتاحيّةُ جريدة النهار يقول:

من غموضِ التحالفاتِ بين قِوى الدولةِ، إلى غموضِ التحالفاتِ بين قوِى التغييرِ، تُولدُ الفوضى. والفوضى يُمكنُ أنْ تكونَ أقْصرَ طريقٍ إلى الانهيارِ أو أقصرَ طريقٍ إلى الإنقاذ. قد يكونُ الانهيارُ مرحليًّا أو نهائيًّا، وقد يكونُ الإنقاذُ ديمقراطيًّا أو عسكريًّا. انتفاضةُ البطريركِ المارونيّ بشارة الراعي على الوضعِ السائد، وانتفاضةُ قائدِ الجيشِ العمادِ جوزيف عون على السلطةِ السياسيّةِ، تُرجّحان فرضيّةَ الإنقاذ، على المدى المتوسِّط، من داخلِ التراثِ والمؤسّسات.

ما يَحدُثُ من شقاءٍ للشعبِ في الشارعِ شيءٌ من كلِّ مكان: شيءٌ من العراق، وشيءٌ من سوريا، وشيءٌ من اليمن، وشيءٌ من الصومال، وشيءٌ من فنزويلا، وشيءٌ من بنغلاديش. وما يَحدُثُ في السلطةِ هو شيءٌ من كلِّ شيء: شيءٌ من التسلّط، وشيءٌ من الإنكار، وشيءٌ من الفشل، وشيءٌ من التخبُّط، وشيءٌ من الانقسامِ، وشيءٌ من النهاية. الحَراكُ فَقدَ بُوصْلتَه رغمَ أحقيّةِ مطالبِه، والدولةُ فَقدَت مبرِّرَ وجودِها رغمَ شرعيّتِها. فَصلَ الحكمُ سلطتَه عن شرعيّةِ الدولةِ، وصار حتّى من دون سلطةٍ تنفيذيّة. حكمٌ يَعيشُ على حركةِ الأيّام، ويظنُّ أنَّ الاجتماعات الفضْفاضةَ هيبةٌ ووَهرةٌ وقوّة.

والحَراكُ الشعبيُّ فَقَد هُوِيّتَه. بدا ثورةً مراهِقةً أمامَ سلطةٍ شَمطاء. مجموعاتٌ من الثورةِ عَنَّت على بالِها لُعبةُ السلطةِ ولـمَّا تَصِل إلى الشارعِ بَعد. ومجموعاتٌ أغْوَتها مغازلةُ الأحزابِ ولم تَبلُغْ سِنَّ الرُشدِ بعد. ومجموعاتٌ ظنَّت أنّها إذا فَرَشت دربَ الثورةِ بالمالِ وصَلت. ومجموعاتٌ تَوهَّمت أنَّ الإعلامَ يُبرِزُها فأحْرَقها. ومجموعاتٌ نَزحَت بفَشلِها في السياسةِ إلى الثورةِ وراحَت تَتصرّفُ كأنها مرشِدةُ الشعبِ والأحزابِ التاريخيّةِ المناضِلة. ومجموعاتٌ أخرى حافظَت على استقلاليّتِها ووطنيّتِها ونَصاعتِها ووَقفَت حائرةً كيف تَستأنِفُ ما بَدأته في 17 تشرين الأول 2019.

اللافتُ في الحَراكِ الأخير، وغالِبيّتُه حزبيّة، أنّه لم يَرفع مطالبَ وشعاراتٍ واضحةً، ولم يُقِم تنسيقًا بين أحزابِه المعارِضة. فإذا كان حَراكُ تشرين 2019 رَفعَ شعارَ مكافحةِ الفساد وتغييرِ الطبقةِ السياسيّة، ثم طَعَّمَه سنةَ 2020 بلونٍ سياسيٍّ غَلبَ عليه نزعُ سلاحِ حزبِ الله، فحَراكُ اليوم احتجاجيٌّ أكثرُ ممّا هو مَطلبيٌّ. وظنّي أن السببَ يَعود إلى أنَّ القِوى التي "جَهْزَت" الحَراكَ تريدُ، من جِهةٍ، تنفيسَ غضبِ قواعدِها الشعبيّةِ بأقلِّ جُهدٍ ممكِن ومواكبةَ مواقفَ معيّنة، وتعرفُ، من جهةٍ أُخرى، أنَّ مطالبَها السياسيّةَ، كاستقالةِ رئيسِ الجُمهوريّةِ ونزعِ سلاحِ حزبِ الله وإجراءِ انتخاباتٍ مُبكِرةٍ، صعبةُ التحقيقِ حاليًّا.

آخِرُ تحرّكٍ جامعٍ كان التجمّعَ الوطنيَّ في 27 شباط الماضي في ساحةِ صَرحِ البطريركيّةِ المارونية. في تلك الساحةِ استعادت الثورةُ نَبضَها والشعبُ أَملَه. وكان يجدرُ بالثوّار، تأييدًا لقائدِ الجيش، أن يَتحركوا بعفويّةٍ وبكثافةٍ بعد َكلمتِه. إذ إنَّ بين "لا تسكتوا" التي أَطلقها البطريرك، و"كفى" التي صَدَحَ بها العماد، اختصارَ معاناةِ الوطنِ والشعب. وجاء قرارُ البابا فرنسيس زيارةَ لبنان قريبًا ليؤكدَ هذه المعاناةَ ووجوديّةَ الأزمةِ اللبنانية وتَصميمَه على إنقاذِ بلادِ "الشركةِ والمحبّة"؛ فتوقيتُ زيارتِه سيتزامنُ مع نضوج ِحلِّ القضيّة اللبنانيّة.

ما يؤخّرُ الحلَّ هي السلطةُ اللبنانيّة. وكلَّ يومٍّ تحمِّلُ السلطةُ مسؤوليّةَ الفشلِ والانهيارِ إلى زمنٍ ما أو إلى طرفٍ معيَّن: في بدايةِ العهدِ رمَت المسؤوليّةَ على أطرافٍ اتّهمَتْهم بالانقلابِ على التسويةِ الرئاسيّةِ. بعدَ سنةٍ ونصفٍ ألْقتْها على السنواتِ الثلاثينَ المنصرِمة. ومع انطلاقِ الاحتجاجاتِ سنةَ 2019 حمَّلتْها للثوّار ولِـمَن تَشُكُّ بأنّهم وراءَهم. وحين تدَهورَت الليرةُ ألقَت السلطةُ كلَّ غضبِها وكيديّتِها على حاكمِ مصرِف لبنان كأنَّ سببَ الأزمةِ ماليٌّ. ومع تصاعدِ نقمةِ الشعبِ في الشارعِ جيّرت المسؤوليّةَ على قائدِ الجيش كأن سببَ الأزمةِ عسكريٌّ.

الأزمةُ سياسيةٌ بامتيازٍ، ومسؤوليّتُها تَقعُ كاملةً على السلطةِ الحاليّة. لا حاكمُ مَصرَفِ لبنان يَستطيعُ وقفَ الانهيارِ الماليّ ولا قائدُ الجيشِ وقفَ غضبِ الشعبِ قبلَ أن تُحِسَّ السلطةُ على دمِها وتَسمحَ بالحلِّ السياسيِّ الذي يَرتكزُ في مرحلةٍ أولى على ما يلي: تأليفُ حكومةِ اختصاصيّين استثنائيّين غيرِ حزبيّين. 2) إجراءُ الإصلاحاتِ المتعارَفِ عليها بالتوازي مع بَدءِ ورودِ المساعداتِ الخارجيّة. 3) عودةُ السلطةِ عن خِياراتِها غيرِ الدستوريّةِ وعن تَموضُعِها في قلبِ المحورِ السوري/الإيراني. 4) ترميمُ عَلاقاتِ لبنانَ العربيّةِ والدوليّةِ. 5) التزامُ الِحيادِ الفعليِّ والشروعُ في تطبيقِ اللامركزيّةِ الموسَّعة.

لا يَحِقُّ للسلطةِ أن تَفشَلَ سياسيًّا واستراتيجيًّا وأن تغتالَ الحلولَ المقترَحةَ، ثم تُلقي التُهمَ على غيرِها وتطالبُ الجيشَ بتنفيذِ تدابيرَ قمعيّةٍ لا تَنسجِمُ مع النظامِ الديمقراطيِّ، ولا مع تركيبةِ لبنان السياسيّةِ والطوائفيّة، ولا مع تربيةِ الجيشِ وثقافتِه. هذه التدابيرُ تُشكّلُ خريطةَ طريقٍ إلى الفِتنةِ في جميعِ المناطقِ وإلى الانقسامِ على مختلف المستويات. سنةَ 1997 أصدرَ المؤرِّخُ الفرنسيُّ نيقولا ويرث (Nicolas Werth) كتابًا بعنوان: "دولةٌ ضِدَّ شعبِها"، وفيه يروي تعاسةَ الشعبِ الروسيِّ الذي كان يعيشُ تحت سلطةٍ تَتجاهل مطالبَه. وجَزَم بأنَّ الشعبَ يَنتصر دائمًا في نهايةِ الصراع.

في سبعيناتِ القرنِ الماضي اتُّهِم اليسارُ اللبنانيُّ العقائديُّ بمحاولةِ ضربِ مؤسّساتِ النظام، لاسيّما الجيشُ ومَصرفُ لبنان والقضاء. أما اليوم، فالأصابعُ تُوجَّهُ إلى السلطةِ وحلفائِها بتَشويه سُمعةِ جميعِ مؤسّساتِ الدولةِ ما أدّى إلى هذه الحالِ التي لم يَعرِفْها اللبنانيّون في تاريخِهم. ما مَرَّ شعبٌ في أزمةٍ مصيريّةٍ طالت جميعَ مفاصلِ وجودِه، ووَجَد دولتَه تَحولُ دونَ تنفيذِ الحلِّ المتوَفِّر، وتُشاركُ في استفحالِ الأزمةِ غيرَ عابئةٍ بالانهيارِ والإفلاس. في لبنان، نعيشُ في الـمُحالِ واللامعقول...

ماذا يبقى لسلطةٍ حين تثورُ عليها غالِبيّةُ الشعب، وتعارضُها غالِبيّةُ القوى السياسيّةِ، وتَتذمّرُ منها قِواها العسكريّةُ والأمنيّةُ، ويَهجُرها أصدقاؤها وحلفاؤها التاريخيّون؟ لا تَقتصرُ أضرارُ هذه الحالةِ على السياسةِ، إنّما تتعداها إلى الشأنِ الكيانيِّ، خصوصًا أنَّ طموحات البعض تتعدّى الدستورَ والنظامَ والصيغةَ والهوِيّة. حين تصبحُ التعدديّةُ الحضاريّةُ والدينيّةُ رهنَ أحَدِيّةٍ مسلّحةٍ يَسقطُ بُعدُها النَموذجيُّ وتَتعرّضُ الشراكةُ الوطنيّةُ للخطر. فلا ننسى أنّنا شعبٌ مُـجَـمَّـعٌ لا جامِع، وموحَّدٌ لا واحِد. جَمعَتنا الحرّيةُ ووحَّدَتنا التعدّدية. ومهما قَسَت علينا الأيّامُ سنظلُّ نكافحُ ليبقى لبنانُ لنا.

اخترنا لكم
"عملية الزر الأحمر".. عميلان للموساد كشفا تفاصيل مثيرة
المزيد
ماذا أهدى وليد جنبلاط إلى أحمد الشرع؟
المزيد
هل يحتاج انتخاب قائد الجيش إلى تعديل الدستور؟
المزيد
أرز الشوف: إنجازات رغم الصعوبات ورؤية واعدة للمستقبل
المزيد
اخر الاخبار
"ويخلقُ اللهُ ما لا تعلمونَ"!
المزيد
"عملية الزر الأحمر".. عميلان للموساد كشفا تفاصيل مثيرة
المزيد
جعجع: العيد هذا العام يحمل طابعاً مختلفاً.. افرحوا!
المزيد
"حزب الله": نكثّف جهودنا جنوباً في ملف التعافي من آثار الحرب
المزيد
قرّاء الثائر يتصفّحون الآن
الصايغ: لا يجوز ان تتعطل الحكومة وما يقوم به قرداحي هو"عنتريات"
المزيد
وئام وهاب: إعقل يا نجيب . الإستقامة ثروة
المزيد
الفرصة الأخيرة للحكومة لن تتجاوز السبت؟
المزيد
هيومن رايتس اتهمت إسرائيل بجرائم تمييز عنصري في حق الفلسطينيين
المزيد
« المزيد
الصحافة الخضراء
أرز الشوف: إنجازات رغم الصعوبات ورؤية واعدة للمستقبل
كشافة البيئة نظمت في عيّات ورشة "تنمية مهارات العرض والإلقاء والتقديم"
إحذروا هذه الأشياء قد تكون خطر للغاية، ملكي: لألزام المؤسسات الزراعية، بالحصول على رخصة باشراف ورقابة مهندسين زراعيين!
رصد ظاهرة غامضة في قاع البحر الميت.. ما هي المدخنات البيضاء؟ (فيديو)
البنك الدولي يشيد بجهود الإمارات في معالجة التحديات المناخية
لماذا ينصح بشرب كوب من الماء الدافىء قبل تناول الطعام؟