#الثائر
دير القمر تلك البلدة من الشوف في محافظة جبل لبنان وعاصمة لبنان القديم ترتفع عن البحر 850 مترا وتتميّز الى جانب تراثها وزواريبها وشوارعها القديمة انها احتضنت اول بلدية في الشرق وتعود الى 151 عاما. تلك البلدة التي مرّت كسائر بلدات الشوف بالمصاعب بدت عصيّة عن السقوط بفضل شفيعتها وأمها سيدّة التلّة.
وتمتاز سيّدة التلّة انها ملجأ كل ابناء الشوف من مسيحيين ودروز فما زرتها يوما الا والتقيت بالزوار من مختلف الانتماءات يصلّون في كنيستها ويضيئون الشموع ويرفعون نواياهم ويعودون بعد فترة ليوفوا نذرا ويشكروا.
انها “شفيعة الدروز” على حدّ ما يصفها أبناء المنطقة وهم يلجأون اليها في مصاعبهم لاسيما في حال العقم فتعطيهم الاولاد فيرجعون شاكرين. ماذا عن تاريخ الكنيسة؟
الامير فخر الدين يأمر ببناء الكنيسة
بنيت كاتدرائيّة سيدة التلة على أنقاض هيكل وثني روماني أقيم لعبادة الاله “قمر”. عثِر في أنقاض هذا الهيكل على ناووس حجري تحوّل الى جرن معموديّة بعدما تحوّل الهيكل الى معبد مسيحي باسم العذراء مريم في العصور المسيحيّة الاولى.
وتروي أسطورة قديمة متناقلة في تقليد دير القمر أن الأمير فخر الدين المعنيّ أمر بإعادة بناء الكنيسة في مكانها الحالي على أثر ظهور ضوء عجيب رآه يشعّ من على التلة المقابلة من بعقلين، مكان سكناه. فأمر الامير رجاله بحفر الموقع قائلا لهم:”اذا وجدتم أثرا مسيحيا، فشيّدوا هناك كنيسة. واذا وجدتم أثرا اسلاميّا، فشيّدوا هناك جامعا”. وبعد التنقيب، عثروا على آثار مسيحّية. فأصدر الامير المعني أمره ببناء كنيسة على نفقته الخاصّة وكان ذلك تحديدا في سنة 1673.
كما عثِر على حجر يرجع الى العهد البيزنطي نقش عليه صليب وقمر يلتفّ بشكل قوس على الشمس، وهذا رمز للعذراء. فمريم، بالنسبة الى يسوع، مثل القمر بالنسبة الى الشمس. منه تستمدّ نورها وهذا الحجر عثر عليه فريق من الموارنة قدموا من منطقة بشري بشمال لبنان بقيادة بعض الرهبان ليقيموا في دير القمر، في بدء القرن السادس عشر.
وعندما شاء رئيسهم الأب عبدالله معربس، أن يبني ديره في هذا المكان الذي كانوا يسمونه “التلّة”، وجدوا “الحجر البيزنطي” بين الأنقاض، ففرحوا جميعا برؤية الصليب المنقوش عليه، لأن في ذلك دلالة على أن المسيحيين سبقوهم الى إقامة معبد لهم في المكان نفسه. وتبيّن لهم من القمر المنقوش تحت الصليب ان هذا المعبد كان للسيدة العذراء على هذه التلّة. فسموا كنيستهم “سيدة التلة” وسمى الاهالي بلدتهم “دير القمر”.
إذاً، سنة 1750، استلمت الرهبانية من أهالي دير القمر كنيستهم المشيّدة على اسم السيدة العذراء والدة الله، في محلّة “التلّة” بوسط البلدة. كما وهبت الست أمّون، والدة الأمير يوسف المعني للرهبانية، الاقبية الاربعة والدكاكين الموجودة فوقها والتي تقع الى جانب الكنيسة، من اجل تعليم الاولاد وفائدة الشعب الروحية. فأقامت الرهبانية أول مدرسة ديموقراطية في الشرق حيث كان يتعلم مجاناً أولاد الأمراء الى جانب أولاد الفلاحين، من دروز ومسيحيين. وسنة 1760، تمّ ترميم كنيسة سيدة التلّة وتوسيعها نحو الغرب. وفي سنة 1831، تمت زيادة قنطرة جديدة الى الكنيسة في الطرف الغربي.
سنة 1860، استشهد اثنا عشر راهباً من أبناء الرهبانية خلال المجازر التي تعرض لها المسيحيون في دير القمر (2300 شهيداً)، ولم ينجُ سوى الأب سابا دريان الذي صار فيما بعد رئيساً عاماً، عام 1877.
فتضررت الكنيسة والأنطش اضراراً بالغة، بسبب الحريق والنهب.
في التاريخ الحديث
سنة 1937، جرى أول احتفال رسمي بعيد سيدة التلّة في الاحد الاول من آب، وذلك بمنشور صادر عن راعي الابرشية آنذاك المطران اوغسطين البستاني سليل الرهبانية. وسنة 1995، تمّ ترميم كنيسة سيدة التلة وتجديد مذبحها. سنة 2001، في 5 آب، عيد سيدة التلة، بارك السيد البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، بحضور رئيس الجمهورية، تمثال القديسة رفقا المنحوت من حجر دير القمر، والموضوع في الباحة الخارجية لكنيسة سيدة التلة بالقرب من السكرستيا.
سنة 2003، في عيد سيدة التلة، تمّ رفع تمثال برونزي جديد لسيدة التلة فوق قبة جرس الكنيسة.
سنة 2004، في 1 آب، وبمناسبة عيد سيدة التلة، تم تدشين “معبد سيدة شهداء دير القمر” الموجود لجهة مدخل باب الكنيسة الرئيسي، وافتتاح متحف صغير في الجهة المقابلة لمزار سيدة التلة. كما تم ترميم غرفة النوم في الطابق الاول، ورفع الردم الذي اظهر وجود ثلاثة اقبية من العقد.
صورة سيّدة التلة
صورة سيّدة التلّة مأخوذة عن رسم “عذراء القديس لوقا” الانجيلي وهي الصورة نفسها المكرّمة في “كاتدرائيّة القديسة مريم الكبرى” في روما. ولا بدّ من الاشارة الى أنّ صورة سيّدة التلّة اعيد رسمها على اثر احداث 1860.
وكنيسة سيدة التلة العجائبيّة تُعتبَر مركز حج مريميا وهي من الكنائس المريمية الاقدم في لبنان.
كنيسة سيدة التلة ومجازر سنة 1860
كان أهالي دير القمر، يعيشون ولا يزالون، في وسط ليس كلّه مسيحيًا. وخلال فترة الحرب الأهلية والأحداث الدامية التي حلّت في لبنان سنة 1860، حدثت مذبحة الجبل، وكان لدير القمر نصيب فيها وبلغ عدد الشهداء 2300 ، بينهم 12 راهبًا.
وتخليدًا لذكرى هؤلاء الشهداء، تمّ دفنهم في مكان بجانب الكنيسة، وأقيم نصب تذكاري لهم، عام 1950، فخلّدت لوحة رخامية على الحائط كتب عليها: «هنا يرقد بالرب شهداء دير القمر في سبيل الدين والوطن سنة 1860».
ماذا عن البناء؟
يتألّف البناء من الطابق السفلي وفيه صالون الرعية، الموجود تحت باحة الكنيسة. اما الطابق الارضي ففيه: كنيسة سيدة التلة الرعائية، والمزار ومعبد سيدة شهداء دير القمر والمتحف، ونصب تذكاري يمثل القديسة رفقا في حادثة تخليصها صبياً من الموت في حوادث سنة 1860، ونصب تذكاري لشهداء البلدة. الطابق الاول يضمّ المطبخ والمائدة، وغرفة نوم، و3 أقبية من العقد، وغرفة سهرة.
اما الطابق الثاني فيتألّف من صالون كبير وآخر صغير، ومكتبين، و4 غرف للنوم، وغرفة للغسيل.
وفي الآونة الاخيرة، يتمّ تشييد مركز رعوي جديد الى جانب الكنيسة وهو شارف على النهاية متماشيا مع طابع دير القمر التراثي العريق.
أم المسيحيين والمسلمين والدروز
أجمع المسيحيّون والمسلمون والدروز على اعتبار “سيدة التلة” حكما بينهم في خلافاتهم. فكانوا يقصدونها ليحلفوا اليمين أمامها إثباتا لصدق قولهم.
وإن مذبح الكنيسة كان شاهداً على تحالفات بين الامارة والكنيسة، وبين الامارة وبلاد الغرب عبر البطاركة الموارنة، لذلك دعيت الكنيسة باسم “سيدة القسم أو الحلفان”. كما اصبحت مخبأً لبيارق الامراء لا تخرج منها إلا لمعركة ولا تعود اليها الا بعد انتصار. الى جانب الانطش، قامت أول “مدرسة ديموقراطية” مجانية في الشرق.
ولغاية اليوم، يقصد الكنيسة الزوار والمؤمنون من أية طائفة انتموا فكلّما زرنا الكنيسة لصلاة وطلب الشفاعة نلتقي بمن أتى يحمل همّه وألمه وكذلك فرحه لمريم العذراء ملتمسا نعمة لموجوع ومريض ومتألّم ومحتاج وهي لا تردّه خائباً.
العجائب
إحدى أهم عجائبها التي يتناقلها الناس من جيل إلى جيل، هي عندما سرقت أواني القداس الثمينة من الكنيسة، فظهرت سيدة التلة لرئيس الأنطش في الحلم، ودلّته على السارق وعلى المكان الذي خبأ فيه الآنية. وإذا بالسارق هو من رجال الشيخ ناصيف النكدي، والمسروقات مخبّأة في منزله، فذهب وفد برفقة رئيس الأنطش لزيارة الشيخ، وأخبره الرئيس بالحادثة.
فاتجه الشيخ ناصيف نحو النافذة وقال للرئيس: أترى اللص الذي دلتك عليه السيدة، فتمكن الأب الرئيس من التعرف عليه. ثم اتّجها سوية إلى الاسطبل ليدلّه على مكان الآنية المسروقة بحسب ما أوحت إليه العذراء، فاستدعوا السارق وأمروه بالحفر فبانت المسروقات، عندها أمره الشيخ بمتابعة الحفر حتى أصبحت الحفرة بطوله، فدفعه دفعة أسقطته داخلها، وأمر بطمره فيها حيًا. وهي رواية متناقلة حتى اليوم في البلدة.
فيا سيّدة التلة، ساعدينا أجمعين!!