#الثائر
كتبت صحيفة "الأخبار" تقول: اختار الأميركيون "أهون الشرّين" بالنسبة إليهم: النفط العراقي بدل النفط الإيراني إلى لبنان، ليتراجع الأميركيون خطوة إلى الخلف، في عزّ التصعيد ضدّ حزب الله. ومع أجواء القلق من وقوع الصدام بين المقاومة وإسرائيل وسقوط جنود أميركيين قتلى في ساحات المواجهة، يصرّ الأميركيون على إطباق قبضتهم على الجيش، وحرمان الحكومة اللبنانية من أيّ دعم
بكثير من الوضوح، مرّر قائد المنطقة المركزية الوسطى في الجيش الأميركي الجنرال كينيث ماكنزي ، أمس، جملةً من الرسائل، بدت في الشكل أكثر دبلوماسية من الفجاجة التي تحدّث بها نائب وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر قبل نحو أسبوعين وتابعتها السفيرة دوروثي شيا، ثم ختمها أول من أمس الوزير مايك بومبيو.
الجنرال الذي تحدّث عن عجز الولايات المتحدة عن تحقيق "السلام" أو "بناء الأمم" في ساحات خبرها عن قرب كالعراق وأفغانستان، لم يخفِ أن "لدى الولايات المتّحدة مصالح في الشرق الأوسط"، خلال تصريحه لقناة "أل. بي. سي."، التي تتسابق هذه الأيام مع "أم. تي. في." على نقل تصريحات المسؤولين الأميركيين.
طبعاً لم يتحدّث ماكنزي عن مصالح لبنان، لكنّ الزائر الثقيل زاد الوضوح وضوحاً، بإعطائه غطاءً لخروقات العدو الإسرائيلي وتحركاته في الساحة اللبنانية، مؤكّداً أنه يتطلّع إلى اليوم الذي "تنتهي فيه التهديدات لإسرائيل من جيرانها".
وإذا كانت حركة ماكنزي وأترابه في وزارة الخارجية الأميركية، قد تحرّكت على وقع التقدّم الصيني والإيراني والروسي نحو لبنان، والاندفاعة الرسمية اللبنانية نحو خيارات بديلة من الانتحار، بانتظار رضىً أميركي لن يأتي، فإن أهمّ ما على قائمة ماكنزي قوله للمنافسين الجدد إن الجيش اللبناني "شريك استراتيجي" للجيش الأميركي.
وبصريح العبارة، رأى أن "العلاقات بين الجيش الأميركي والجيش اللبناني تتخطى الجيش (البري)، إنما هي علاقة مشتركة وتؤثر على سلاح الجو اللبناني والبحرية اللبنانية، وعلاقة عميقة ستتجاوز أي اضطراب له علاقة بالسياسة".
هي في الشكل والعلن، إذاً، زيارة تأكيد على سياسة الولايات المتحدة تجاه لبنان: حصار شامل ومنعٌ للخيارات البديلة، وتحديداً الصينية والإيرانية، إطلاق يد إسرائيل في الساحة اللبنانية، ومحاولة إطباق الخناق على الجيش اللبناني والرّهان عليه للتوازن (والمواجهة لاحقاً) مع حزب الله. وهنا، تردّدت معلومات أمس عن أن الأميركيين أبدوا استعداداً لتعويض النقص الحاصل في غذاء الجيش من ناحية اللحوم، عبر تمويله لشراء اللحوم الناقصة جراء تراجع سعر الصرف العملة اللبنانية وعدم قدرة الميزانية الحالية على تمويل اللحم. إلّا أن الخيار الأميركي ينحو نحو دعم الجيش بشكل مستقل عن الحكومة، تماماً كما تردّدت معلومات عن نيّة الفرنسيين تقديم مساعدات للمدارس الفرنسية، ونيّة السعوديين توزيع مساعدات لجهات حليفة لهم، وليس للدولة اللبنانية، بما يعزّز تفكك مؤسسات الدولة وإضعاف ما تبقى من النظام المركزي، لحساب هياكل رسمية أو شعبية، محسوبة على فئات يمكن استخدامها في الصراع المفتوح مع حزب الله.
لكن إعلان ماكينزي أن الصراع مع إيران لا يحمل طابعاً عسكرياً، في كلام دبلوماسي يرسم إطاراً شكليّاً للحرب بعيداً عن العسكرة، لم يأت من فراغ، بل يستهدف أساساً الإشارة إلى ما يمكن اعتباره أميركياً "استباقاً لتصعيد إيران انطلاقاً من لبنان". فالحركة الدبلوماسية الغربية الناشطة في بيروت هذه الأيام، جلّ همها رصد حركة حزب الله ونشاط الحكومة على المستوى السياسي مع الصينيين والإيرانيين. والأهمّ بالنسبة إلى جامعي المعلومات، هو الاستعداد الحربي الذي يبديه الحزب، والردود التي يمكن أن يقوم بها حلفاء إيران على كامل ساحات المواجهة، وفي سلسلة تفاهمات سياسية استراتيجية حصلت في المنطقة خلال الشهر الماضي. فخلال الأسبوعين الأخيرين، استنتجت معظم الاستطلاعات الدبلوماسية الغربية، وقوات الطوارئ الدولية (اليونيفيل)، أن حزب الله لم ينكفئ أمام التهديدات أو يستسلم أمام حملة الدعاية التي تحاول أن تحملّه مسؤولية الأزمة في الداخل. بل على العكس من ذلك، اندفع نحو فتح خطوط الشرق ولقي تجاوباً و(إن كان لا يزال محدوداً) من الحكومة والقوى السياسية الحليفة نحو البحث عن حلول لكسر الحصار، وفي الداخل نحو تعبئة اللبنانيين على مواجهات من نوعٍ آخر تغيّر في الوجهة الاقتصادية للبلد، والتي يهمّ الأميركيين الحفاظ عليها في لبنان وغيره. وهنا تحضر الاتفاقيات الاستراتيجية التي وقّعتها إيران والصين الشهر الماضي، وما يعنيه الأمر من تعمّق للتحالف بين البلدين، في عزّ صراعهما مع الأميركيين.
أما على المستوى العسكري، فيمكن القول إن الدبلوماسيين الغربيين كانوا في الأيام الأخيرة، يرصدون بقلق ما يشعرون بأنه استعداد حربي وسياسي لدى حزب الله لمواجهة عسكرية مع إسرائيل، في أي لحظة تفعّل فيها الأخيرة آلتها الحربية عدواناً أو اعتداءً على لبنان. ولا يمكن إغفال مجموعة الإشارات العسكرية التي حصلت أخيراً، بدءاً من هجوم الحوثيين الجوي على قيادة الاستخبارات العسكرية السعودية ووزارة الدفاع في قلب السعودية، والمناورات العسكرية الصاروخية التي نفذتها فصائل المقاومة في غزّة، واضطرار بنيامين نتنياهو إلى تخفيف اندفاعته نحو ضم غور الأردن خشية اندلاع مواجهات غير محسوبة النتائج.
وليس خافياً أن القلق الأميركي يتصاعد من توسّع التحركات العسكرية المعادية للقوات الأميركية في العراق وسوريا، ومن الاتفاقات العسكرية الاستراتيجية التي وقّعتها سوريا مع إيران في دمشق قبل يومين. ففي الوقت ذاته، لا يحتاج الرئيس الأميركي دونالد ترامب - فوق فشله في إدارة أزمة "كورونا" واحتواء الاحتجاجات الشعبية التي عصفت بعد قتل الشرطة الأميركية المواطن جورج فلويد - إلى أن يعود جنوده إلى عائلاتهم من الناخبين الأميركيين جثثاً في أكياس، من ساحات وعد بالانسحاب منها في دورته الانتخابية الماضية، قبل أشهر قليلة من موعد الانتخابات المقبلة.
مسألة أخرى لم يفت المسؤول الأميركي الإشارة إليها، هي "رغبة واشنطن في تحريك ملف الحدود البحرية الجنوبية"، مؤكّداً أمام من التقاهم أن "واشنطن ستوفد قريباً من يتولّى استئناف التواصل حول الملف". وهذه الرغبة، التي تتزامن مع الإعلان الإسرائيلي عن بدء التنقيب على مقربة من البلوك 9، لا يمكن فهمها إلّا في إطار ضغوط الأمر الواقع على لبنان، لجرّه إلى التفاوض والتنازل عن حقوقه.
العراق ولا إيران
كل هذا التصعيد، لا يُفقد الأميركيين عنصر "البراغماتية". فالنتيجة المحسومة هي أن حزب الله لن يركن للتهديدات، وحلّه جاهز للحصار النفطي بشراء النفط الإيراني. وهنا أيضاً، يبدي الأميركيون تخوّفاً كبيراً، فهذا الخيار من جهة يكسر الحصار عن لبنان في أقسى أوجهه بحلّ أزمة المازوت (والبنزين في حال تصاعد حدة الحصار)، وثانياً يسمح لإيران ببيع جزء من نفطها بعملة غير الدولار. ويرى الأميركيون أن خياراً مماثلاً سيسمح لإيران بتمويل حزب الله بغير الدولار.
من هنا، يُفهم التراجع الأميركي عن التشدّد حيال علاقة لبنان بـ"قانون قيصر". وعلى ما علمت "الأخبار"، فإن واشنطن وعلى لسان شيا، أبدت استعدادها لبحث إمكان إصدار "استثناءات" تخص لبنان، بما يتعلق بتطبيق "قانون قيصر"، لتسهيل وصول النفط العراقي إلى لبنان، على غرار الاستثناءات التي تقدّمها واشنطن للعراق واليابان وكوريا وتركيا للتعامل مع إيران. وطلبت السفيرة أمام الرئيس نبيه بري، الذي زارته أمس، أن تقوم الحكومة بتزويد السفارة بـ"لائحة المواد أو العناوين التي تحتاج إليها، ما يسمح للجهات المعنية في أميركا بدرسها والإجابة عنها سريعاً". وبحسب المعلومات، اختار الأميركيون بين حصول لبنان على النفط من إيران أو العراق، أن يحصل التعاون مع العراق، في ظلّ علاقة التوازن القائمة حالياً بين الدورين الإيراني والأميركي وتأثيرهما على الحكومة العراقية. وهذا التراجع الأميركي، وإن كان يحمل في طياته انتقاصاً من السيادة اللبنانية في الحاجة إلى أخذ الإذن من الأميركيين لتحقيق مصالح لبنان وعلاقاته مع سوريا والعراق، إنّما يحمل فرصةً جديّة للحكومة اللبنانية، للذهاب سريعاً نحو تفاهمات واتفاقات مع الحكومة العراقية، لوقف الانحدار وقبل تغيّر الظروف، التي تتبدّل على وقع الأحداث المتسارعة في لحظات مصيرية من عمر المنطقة.
داخلياً، بدت البطريركية المارونية، أمس، حائط مبكى خصوم حزب الله، والذين لا يزالون يراهنون على الدور الأميركي لقلب المعادلات في الداخل. وعدا عن الرئيس سعد الحريري، الذي لا يهمّه سوى التسويق الدائم لنفسه بوصفه مرشّحاً محتملاً لرئاسة أي حكومة مقبلة، ودفاعه المستميت عمّا يسمّيه "الاقتصاد الحرّ"، بدا زوّار بكركي (الرئيس السابق للحكومة فؤاد السنيورة، مثالاً) كالباحثين عن راعٍ، بعدما قدّم البطريرك بشارة الراعي نفسه كقائد محتمل لقيادة "الجبهة الأميركية" في لبنان، في تكرارٍ لسيناريواتٍ فاشلة، لم يدفع ثمنها سوى حلفاء أميركا بتخلّيها الدائم عنهم.
هيل يؤنّب شيا
لا يكفي الموقف الذي تعرّضت له السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا بعد قرار القاضي محمد مازح منعها من التصريح لوسائل الإعلام اللبنانية، حتى أتاها إزعاج إضافي مصدره وزارة الخارجية الأميركية، التي اعتبرت أن "مجرد استدعاء سفير أميركي إلى وزارة الخارجية في لبنان يمثل نقطة ضعف". وتبيّن أن السفارة حاولت إلغاء الاستدعاء وترتيب موعد لاحق مع الوزير ناصيف حتي. لكن الأخير شدد على وجود "تعليمات" بحصول الأمر في موعده. من جهته، "أنّب" وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل، شيا، بسبب ما اعتبره "سوء إدارة للملف، وأنه كان عليها أن تترك اللبنانيين يتساجلون مع القضاء ومع الحكومة ومع حزب الله، لا أن تتولى هي الأمر وتجعل النيل منها ومن مقام سفير الولايات المتحدة أمراً سهلاً".