تابعنا عبر |
|
|
الثائر تقدم لكم تقنية الاستماع الى مقالاتها علّم أي مقطع واستمع إليه
#الثائر
- " اكرم كمال سريوي "**
بعد الأزمة داخل حلف الناتو، التي أحدثتها صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا، والتي قنصتها الولايات المتحدة الأمريكية من جيب الفرنسيين، وبعد المعارضة الأمريكية البريطانية لبدء العمل بخط غاز السيل الشمالي الذي وصل روسيا بألمانيا ولم يبدأ العمل به بعد رغم تفاقم أزمة الغاز في أوروبا، تقدّمت روسيا من الحلف بجملة مطالب بخصوص مخاوفها الأمنية من السياسة التوسعية للحلف ومحاولته محاصرة روسيا، وطالبت بضمانات خطية، بعدم توسّع الناتو شرقاً وضم أوكرانيا إلى صفوفه.
ردت الولايات المتحدة الأمريكية على الورقة الروسية، دون تقديم أي ضمانات أو تلبية للمطالب، ثم شنّت هجوماً ديبلوماسياً معاكساً، تطوّعت بريطانيا لتشكّل رأس حربة فيه، وانضمّت مختلف دول الناتو إلى هذه الحرب.
تم تسخير كبرى شركات الإعلام الغربية في حملة منسّقة غير مسبوقة، ارتكزت إلى كشف الرئيس الأمريكي عن تقارير استخباراتية، تحدّثت عن حشد روسيا لعشرات آلاف الجنود على الحدود مع أوكرانيا، وسعيها لاستكمال الاستعدادات لغزو سريع لكييف، ولم يكتفِ بايدن بهذا الإعلان، بل حدد تاريخ بدء الغزو الروسي، بين 15 و 16 شباط الحالي.
بدأت الدول الأوروبية بدعوة مواطنيها لمغادرة أوكرانيا، وترافق ذلك مع سحب البعثات الدبلوماسية من كييف، والمراقبين الدوليين من جبهة الدومباس، وتم تحذير الطائرات المدنية وطُلب منها عدم التوجه إلى أوكرانيا، وترافق ذلك مع تزويد الجيش الأوكراني ببعض الأسلحة والذخائر النوعية، لصد الهجوم الروسي الوشيك على حد تعبير الرئيس الأمريكي جو بايدن.
ثلاثة من القادة الغربيين الذين يواجهون أزمات داخلية مصيرية؛ الأمريكي جو بايدن، والبريطاني بوريس جونسون، والفرنسي إيمانويل ماكرون، وجدوا متنفساً، وتمكّنوا من حرف أنظار شعوبهم عن الأوضاع الداخلية الاقتصادية والسياسية المتأزّمة، وتحويل أنظار العالم والاهتمام الإعلامي إلى غزو روسي محتمل لأوكرانيا.
وحدهم الروس والأوكران أصحاب الأرض والقضية، ينفون أي علم أو نية لهم بذلك، ويستغربون هذه الهستيريا الإعلامية المضخّمة. كما أن الفرنسيين تركوا لأنفسهم مساحة، للتراجع خطوة إلى الوراء، وعلى عكس حلفائهم الأمركيين والبريطانيين، فهم لم يجزموا بحتمية وقوع الغزو الروسي، لأن الشعب الفرنسي يحاسب قادته على أي تضليل أو إشاعات كاذبة.
بلهجة تهديد غير مسبوقة تحدثت وزيرة الخارجية البريطانية إليزابيت تراس مع نظيرها الروسي سيرغي لافروف. قائلةً له عدة مرات: "سنفرض عليكم عقوبات غير مسبوقة"، مما أزعج الوزير الروسي، فأوقع بها بطريقة الدبلوماسي المخضرم، عندما سألها وهي تتحدث عن الحشود الروسية، عمّا إذا كانت لندن تعترف بسيادة روسيا على مقاطعتي روستوف وفورونيج، الواقعتين في جنوب روسيا على حدود أوكرانيا؟.
وردت تراس على ذلك بسرعة وتسرّع، بالقول: "لن تعترف بريطانيا بسيادة روسيا على هذين الإقليمين".
فاضطرت سفيرة بريطانيا لدى روسيا ديبورا بونيرت إلى التدخل في الجدل، كي توضح لتراس أن الحديث يدور في الواقع عن إقليمين تابعين لروسيا.
ووصف لافروف بعد ذلك حديثه مع نظيرته البريطانية ب "حوار الطرشان".
في الاتصال الهاتفي الأخير، تكلّم بايدن بلهجة الفوقية المعتادة لدى القادة الأمريكيين، موجّهاً إنذاراً الى الرئيس بوتين، ومهدداً بأن واشنطن وحلفاءها وشركاءها سيردون "بشكل حاسم" ويفرضون عقوبات "سريعة وشديدة" على موسكو إذا غزت أوكرانيا.
وسأل بوتين نظيره الأمريكي بايدن: أنه "من غير الواضح لماذا يقوم شخص ما بالإبلاغ عن معلومات مزيفة عن غزو روسي لأوكرانيا". (قاصداً طبعاً بايدن نفسه)، واستنكر بوتين حملة التضليل والهستيريا الغربية حول مزاعم غزو روسي قريب لأوكرانيا. وتم التأكيد في الختام على متابعة المسار الدبلوماسي بين الرئيسين لحل الأزمة الأوكرانية، ومتابعة الاتصالات في شأن المطالب الروسية الموجّهة إلى حلف الناتو.
وعلى خط آخر أبدى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي استياءه من المزاعم الغربية عن غزو روسي وشيك لأوكرانيا، وما يسببه ذلك من تأثير سلبي على الأقتصاد الأوكراني، الذي يعاني كغيره من دول العالم، من تبعات انتشار وباء كوفيد-19. ودعا زيلنسكي نظيره الأمريكي إلى زيارة كييف هذا الأسبوع، في إشارة واضحة إلى قناعته باستتباب الوضع الأمني.
هل بات الغزو الروسي قريباً فعلاً؟
تبلغ مساحة أوكرانيا 603,548 كلم مربع وعديد جيشها 256 الف جندي، وهو مجهّز بأفضل أنواع الأسلحة، فهي دولة عريقة ومتقدّمة في الصناعات العسكرية. وبمقارنة بسيطة مع تجارب تاريخية، نجد أن التحالف الدولي حشد عام 1991 قرابة 950 الف جندي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، لتحرير الكويت من القوات العراقية، واستمر التمهيد الناري والغارات الجوية قرابة شهر كامل قبل أن يبدأ الغزو البري.
وهذا وفق العلم العسكري يُظهر أن عملية غزو أوكرانيا تحتاج إلى حشد 500 الف جندي روسي على أقل تقدير للقيام بعملية ناجحة، وإلى تمهيد ناري سيستغرق أسابيع، ولن تتمكن قواتها من الوصول إلى كييف قبل أن تتكبّد خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، إذا قرر الجيش الأوكراني القتال والصمود.
وبعبارة بسيطة إن اجتياح اوكرانيا يمثّل عملية انتحارية، لا يمكن إنجازها سوى باستخدام قوة نارية هائلة، ستترك دماراً شاملاً لا يمكن أن يتحمّل تبعاته أحد، خاصة روسيا وأوكرانيا اللتان لا يرغب شعباهما، مهما كانت الخلافات السياسية، بنشوب حرب مدمّرة هـي أقرب إلى حرب أهلية بين الأخوة والأشقاء. مما يعني أن ما يُحكى عن قوات روسية على الحدود الأوكرانية تُقدّر بعشرات الآلاف، لا يتجاوز عمليات عرض العضلات، ولا يُشكّل استعداداً حقيقياً للغزو.
حتى الآن نجح الغرب في إحتواء المطالب الروسية، وحوّل المعركة الدبلوماسية لصالحه، لكنه يخاطر بسمعة مخابراته ومصداقية تقاريرها، وهذا ما أزعج البنتاغون، وأبدى العسكريون اعتراضاً على زجّهم في هذه المعركة، وبهذه الطريقة ، لكن ما يهم بايدن هو الظهور بمظهر القوي، خاصة بعد انسحابه المهين من أفغانستان، وهو سيتحدث مستقبلاً عن أنه منع روسيا من غزو محتّم لأوكرانيا، وهو يعتقد أن لا أحد يستطيع تكذيب ذلك، خاصة بعد الدعم الأوروبي الذي حظي به. والأهم من ذلك أن بايدن تمكّن من توحيد الناتو مجدداً تحت القيادة الأمريكية.
يرغب بايدن بالتضحية بأوكرانيا، فهو يريد محاربة روسية بواسطة الجيش الأوكراني، وأعلن صراحة بأنه لن يتدخل عسكرياً في حال نشوب الحرب، لكنه ما زال يُشجّع الأوكران على شن هجوم على مقاطعتي الدومباس ودانيتسك الانفصاليتين، وهو يعتقد أن هذا الأمر سيُجبر روسيا على التدخل عسكرياً، وعندها سيتذرع بايدن باحتلال روسيا لأراضٍ أوكرانية، ويقوم بفرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة (كما يصفها) على روسيا، وسيتمكّن من وضع جدار في العلاقات الاقتصادية بين روسيا وأوروبا، وسينجح بوقف العمل نهائياً بخط الغاز "نورد ستريم-2" والذي وصفه الأمريكيون سابقاً، بأنه يهدد الأمن الاقتصادي في أوروبا.
لا يمكن المقارنة بين روسيا والعراق أو ليبيا أو يوغسلافيا، والرئيس بوتين ليس صدام حسين الذي يمكن دفعه إلى حيث لا يريد، وهو يعلم جيداً أهداف الحملة الغربية، وكذلك يعرف جيداً حجم الخسائر الاقتصادية والعسكرية والسياسية التي ستنتج عن أي غزو عسكري روسي لأوكرانيا، وهو طبعاً لن يُقدّم على ذلك، ما دام هناك باب مفتوح للحوار. كما أن الأوكران يعلمون جيداً ما يمكن أن ينتج عن هذه الحرب، وبالتالي سيرفضون الإغراءات الغربية بدفعهم إلى استفزاز روسيا.
وإذا كان القتال والمعارك في الميدان لن تقع بعد كل هذا الضجيج وقرع طبول الحرب، فهل ستُجبر روسيا الغرب على الاستجابة لمطالبها ومخاوفها الأمنية، وتذهب مع الناتو إلى معاهدة تخفيض للأسلحة في أوروبا؟؟ أم سينجح بايدن في رفع الجدار بين موسكو والدول الأوروبية، وتحويل روسيا إلى فزّاعة، تجعل دول الناتو أكثر طواعية وخضوعاً لسلطة الولايات المتحدة الأمريكية، والتي ستتفرغ بعدها لمحاربة ومحاصرة الخصم الصيني؟
الأشهر القادمة ستُظهر أيهما أقوى ديبلوماسياً، وانجح في تحقيق الأهداف، سلطة المال والإعلام والعقوبات، أم قرقعة السلاح في الميدان.
**رئيس تحرير صحيفة "الثائر"
يُرجى الحفاظ على حقوق الملكية الفكرية عند نسخ أي شيء من مضمون الخبر وضرورة ذكر اسم موقع «الثائر» الالكتروني وإرفاقه برابط الخبر تحت طائلة الملاحقة القانونية.