تابعنا عبر |
|
|
الثائر تقدم لكم تقنية الاستماع الى مقالاتها علّم أي مقطع واستمع إليه
#الثائر
- " اكرم كمال سريوي "
يتساءل اللبنانيون والمسيحيون والعونيون أولاً، لماذا فعل جبران باسيل كل ذلك، وهو الذي كان قادراً بقليل من الحنكة والدراية، أن يجعل عهد الرئيس عون فرصة حقيقية للإنقاذ والإصلاح ؟ لماذا خاصم وأبعد أقرب المقربين من رفاق وحلفاء ومؤيدين؟ لماذا ارتكب هذا الكم من الأخطاء، وتصرف على طريقة سلاطين بني عثمان، فبدأها كمحمد الفاتح، لينهيها كمحمد السادس، بتدمير شامل للإمبراطورية؟
في ٢٩ نيسان ٢٠١١ تمكّن غبطة البطريرك الراعي من جمع الأقطاب الموارنة الأربعة، بهدف إرساء مصالحة مسيحية، تُنتج تفاهماً وطنياً، وتُعيد القدرة للمسيحيين، على لعب دورهم التاريخي منذ قيام دولة لبنان الكبير.
وكان ذاك اللقاء إيجابياً وسلبياً في آن واحد، على المسيحيين وعلى اللبنانيين. وشكُل تكريساً لمبدأ سيادة القوة على الحق، وغلبة الطائفية على الوطنية في لبنان.
تلى ذاك اللقاء عدة لقاءت، كان أبرزها عام ٢٠١٥ عندما اتفق امين الجميل وميشال عون وسمير جعجع وسليمان فرنجية، على مبدأ «الرئيس القوي». وحصروا الترشيح والموافقة المسيحية، بانتخاب واحد منهم لرئاسة الجمهورية، وتعاهدوا على تقديم الدعم، لأي شخص من بينهم، يحظى بقبول وإجماع الأطراف اللبنانية الأخرى.
عندما رشّح سعد الحريري سليمان فرنجية، وحظي بدعم نبيه بري ووليد جنبلاط، تراجع ميشال عون عن الاتفاق، مصرّاً على أن يكون هو مرشحاً وحيداً، باعتباره الأقوى شعبياً لدى الطائفة المسيحية. وثم وخوفاً من وصول فرنجية إلى الحكم، أعلن جعجع عن تأييده ترشيح العماد عون للرئاسة.
هكذا أرسى الأقطاب المسيحيون فكرة «الرئيس القوي، والأقوى في طائفته»
وجاراهم في ذلك السنة والشيعة والدروز ، فتم انتخاب العماد ميشال عون رئيساً.
هلل المسيحيون والموارنة خصوصاً لهذا الإنجاز، تحت شعار «استعادة الحقوق المسيحية المهدورة» وزادت شعبية التيار الوطني الحر، الذي أمسك بمفاصل الحكم والدولة، وأصبح وصياً على المسيحيين، فلا يمكن تعيين أي موظف مسيحي في الدولة بدون موافقة رئيس التيار.
سيطر جبران باسيل على التيار الوطني الحر، لكنه بقي يخشى بعض الأقوياء. لذا حاول التفرد بالقرار، وقرّب منه جماعة المطاوعين الذين تحولوا بسرعة إلى كتبة ومنفذين، لا يجرؤون على الاعتراض، ثم تطوع بعضهم لاحتراف لغة الشتائم وإثارة الأحقاد، محاولاً استرضاء باسيل، فأصابه وتياره بضرر بالغ، عن جهل وغير قصد.
خلق باسيل الكثير من الخصوم حوله داخل تياره، بعد أن استاء هؤلاء من عملية الأبعاد والإلغاء، التي نُفذت بحقهم.
لم يتوقف باسيل عند الغاء الأقوياء في التيار الوطني الحر، بل حاول الغاء القوى المسيحية الأخرى، بدءاً بالشخصيات المستقلة؛ كبطرس حرب، وآل المر، وآل الخازن، وأده، وصولاً إلى المردة، والكتائب، والأحرار، وحتى القوات اللبنانية التي كان قد اتفق معهم في وثيقة معراب، حاول تقليص دورهم، ولم يعطهم من نِعم فرائس السلطة والتوظيف، إِلَّا الفُتات القليل، فانفرط عقد الاتفاق وانقلبوا ضده بسرعة.
استكمل باسيل هجومه على باقي الأقوياء في الطوائف الأخرى، مستنداً إلى موقع الرئاسة القابض على إصدار كافة المراسيم، إضافة إلى تفويض شبه مطلق من حزب الله، الذي منع حصول الانتخابات الرئاسية مدة سنتين ،حتى تم فرض انتخاب العماد ميشال عون بالقوة على باقي الأطراف، وجعل من ذلك مخرجاً وحيداً للأزمة، لا يمكن النقاش فيه.
إن عدم تقبّل باسيل للنقد ورغبته الجامحة بالتفرد بالقرار، جعلاه يشنّ حرباً على الأقوياء في الطوائف الأخرى، متناسياً أن ما ينطبق على الموارنة ينطبق على الآخرين. فكل طائفة في لبنان تلتف حول زعيمها الأقوى، الذي ترى أنه قادر على حمايتها والدفاع عن مصالحها، في مواجهة ذئاب الطوائف الأخرى.
حاول باسيل الغاء دور آل جنبلاط، معتقداً أن تحالفه مع طلال أرسلان سيؤمن له دعم شريحة كبرى من الدروز الذين يمكنه التحكّم بهم.
لكن ذلك انعكس سلباً على ارسلان، الذي رأى فيه الدروز زعيماً ضعيفاً تابعاً لباسيل، فابتعدوا عنه، وكاد لا يفوز بمقعد نيابي، لو لم يترك له جنبلاط مكاناً شاغراً في عاليه.
وفتح باسيل النار مِراراً عديدة على رئيس البرلمان نبيه بري، معتقداً ان حزب الله سيدعمه في ذلك، لأن إضعاف بري سيصب في مصلحة الحزب. لكن حزب الله يعلم أهمية الحفاظ على وحدة الطائفة الشيعية، ولن يطعن حليفه الرئيسي في الظهر، خاصة أنه لا يأتمن باسيل في قضايا استراتيجية عديدة، أهمها الصراع العربي الإسرائيلي، الذي أطلق فيه باسيل عدة مواقف متناقضة.
استكمل باسيل هجومه على شريكه الأساسي في التسوية سعد الحريري، معتبراً أن وجود رئيس حكومة مطواعاً وتابعاً سيكون أفضل للعهد. لكن ذلك دفع بالسنة مجدداً للوقوف خلف الحريري، فبات باسيل والعهد على عداء مع غالبية اللبنانيين.
لقد أرسى النظام الطائفي في لبنان نمطاً فريداً في الحكم، يرتكز إلى مفهوم «الديمقراطية التوافقية»، التي تعطي حق الفيتو على أي قرار في الدولة، لأي واحد من زعماء الطوائف الست الكبرى. وهكذا بات الإصلاح مستحيلاً ، وسادت سياسة المحاصصة واقتسام مغانم الحكم.
إن نظرية حكم «الأقوى في طائفته» هي في حقيقتها حكم الضعيف، لأن الأقوى في طائفته لا يحظى سوى بدعم قلة قليلة من اللبنانيين. وهكذا يُصبح محاصراً من قبل زعماء الطوائف الباقية. وهذا ما حدث لحكم العماد ميشال عون، الذي بات يمثّل أقلية من المستفيدين من جبنة الحكم، فيما تخلى عنه قسم كبير من الحلفاء، وحتى أقرب المقربين.
اليوم يتسأل معظم المسيحيين
ماذا جلب لنا الرئيس القوي؟
هل يشعر المسيحي اليوم حقاً أنه في حال أفضل مما كان عليه قبل حكم العماد عون؟
هل فعلاً استعاد المسيحيون حقوقهم بتوظيف التيار الوطني لبعض التابعين له في الدولة؟ ماذا يقول المسيحي الذي تم استبعاده كونه غير تابع للتيار الوطني الحر؟ هل أصبح لبنان سيداً حراً وقراره مستقلاً فعلاً في عهد العماد عون ؟ أم بات أكثر التصاقاً وتبعية لسوريا وايران ؟ وهل الرئيس عون حرٌ فعلاً؟
إذا كانت بكركي التي تُمثّل تاريخياً نبض الشعور المسيحي، تدعو اليوم إلى حياد لبنان، وتناشد رئيس الجمهورية تحرير القرار اللبناني، واستعادة الاستقلال. فهل يمكن اعتبار المسيحيين راضين عن العهد القوي؟
إن غالية المسيحيين اليوم مثل معظم إخوانهم اللبنانين في الطوائف الأخرى، يشعرون بضياع مستقبلهم، ويخشون على مصيرهم، ومصير ابنائهم، وهم يدركون جيداً ان خيارات العهد، وسياسة رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، مسؤولة بشكل كبير عما وصلت إليه البلاد والعباد من سوء حال وتدبير، والأنهيار الاقتصادي والمالي، الذي شكّلت سياسة العهد وحلفائه، عاملاً أساسياً في حدوثه. خاصة بعد التدهور الكبير الذي احدثته في علاقات لبنان، مع الدول العربية، وبعض مراكز القرار في العالم.
صحيح لا يتحمل العهد وحده مسؤولية الأزمة، فهي نتيجة تراكم أخطاء منذ سنوات طويلة. لكن أيضاً لا يمكن لمن شارك في الحكم، منذ عام ٢٠٠٥، وأصبح في سدة الرئاسة منذ أكثر من أربع سنوات، أن يتنصل من المسؤولية، ويبرئ نفسه ويدّعي العفة.
فهذه خطيئة لا تُغتفر، وادّعاء لا ينطلي على اللبنانيين.
رغم كل التباعد الحاصل اليوم بين الرئيسين عون والحريري، لكن الضرورة ستُفضي إلى لقاء قريب. لأن مصلحة الطرفين، تقضي بإيجاد تسوية. وبانتظار وصول الإشارات الأولى للسياسة الأمريكية الجديدة في المنطقة، وعندما يتضح الخيط الأبيض من الأسود، سيجد الرئيسان عون والحريري، المخرج المناسب لعقد لقاء، وإنتاج حكومة المحاصصة المنتظرة .
يعلم اللبنانيون أن الحاكم الأقوى، هو الذي يحظى بدعم وثقة غالبية المواطنين من مختلف المذاهب والطوائف. وفقط عندها سيكون الرئيس قادراً على الإصلاح، وتحقيق مصلحة كل المواطنين، واستعادة حقوق اللبنانيين، بالطبابة، والاستشفاء، والتعليم، والعمل، والعيش الكريم، وحقهم بالعدالة، والمساواة، واحترام الكفاءة في التوظيف، وحقهم بأن يكونوا مواطنين أحراراً ، وليس أزلاماً وتابعين.
يحق للبنانيين بحاكم عادل، يترفّع فوق الطائفية والمذهبية والمناطقية، ويعمل لاستعادة حقوقهم جميعاً، بدل أن يبحث عن مصالحه الضيقة، أو مصلحة جماعة أو فئة من أتباعه.