#الثائر
العميد المتقاعد دانيال الحداد
لا شكّ في أنّ مقتل رئيس منظمة فاغنر يفغيني بريغوجين وعدد من رفاقه إثر سقوط طائرته الخاصة بين موسكو وسان بطرسبورغ يوم أمس، قد أطلق موجة من التكهنات بين المحللين العسكريين والسياسيين حول أسباب تحطّم الطائرة.
في المطلق، أربعة أسباب تؤدي إلى سقوط الطائرة، الاول؛ ظروف جوية قاسية والثاني؛ تعرضها لاطلاق صاروخ من الأرض أوالجو ، والثالث تفجير عبوة ناسفة في داخلها، والرابع؛ حصول عطل فني فيها متعمد أو غير متعمد.
الاحتمال الأول مستبعد، إذ كانت الظروف المناخية عادية، والاحتمال الثاني مستبعد أيضاً، لأن إطلاق أي مقذوف في اتجاه الطائرة لا بدّ من أن يرصده أحد، كذلك سيؤدي إلى اشتعال الطائرة أو تحطم هيكلها، وبالتالي تناثره مع اشلاء الجثث في أماكن متباعدة وهذا ما لم يحصل.
الاحتمال الثالث ،أي انفجار عبوة في داخلها، وهو احتمال وارد لكن يفترض أن تكون العبوة صغيرة جداً وفي مكان دقيق للغاية لا يؤدي إلى اشعال الطائرة أو تحطمها في السماء، وما يعزز هذه الفرضية هو سقوط الطائرة بجناح واحد حسب أقوال بعض المشاهدين.
يبقى الاحتمال الرابع وهو وارد أيضاً، لكنه يفترض أن يكون هناك اختصاصيون قد تلاعبوا بمحرك الطائرة أو أجهزة قيادتها في المطار بحيث تتعرص الطائرة لفقدان توازنها ضمن مسافة ووقت محددين.
أما عن الجهة المنفذة في حال كانت العملية مدبرة، فللوهلة الأولى وجهت الكثير من الدول الغربية والمحللين أصابع الاتهام إلى المخابرات الروسية ومن خلفها السلطة الروسية بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين، كردّ طبيعي على الانقلاب الذي نفذه بريغوجين خلال الربيع الفائت، فيما توجهت أنظار أخرى إلى الاستخبارات الأوكرانية والغربية عموماً.
من حيث التحليل المنطقي، تطرح عدة أسئلة : لماذا تقدم السلطات الروسية على اغتيال بريغوجين بعد أن انتهت مفاعيل الانقلاب نهائياً بالاتفاق الذي حصل على نقل مجموعته إلى بلاروسيا، ثم اجتماعه بالرئيس بوتين في الكرملين وحضوره القمة الروسية - الافريقية في سان بطرسبورغ في شهر تموز الماضي، وتوقفه التام عن حملاته الإعلامية ضدّ وزارة الدفاع ورئاسة الأركان الروسية؟
ثم هل من مصلحة السلطات الروسية اغتياله في هذا التوقيت بالذات وهو وقواته يدافعان عن مصالح روسيا الكبرى في أفريقيا ضدّ القوى الغربية التي تسعى إلى اخضاع أفريقيا كاملة لسطوتها؟
وكذلك، لماذا تلجأ السلطات الروسية إلى هذا العملية الجدلية، في حين كان باستطاعتها التنفيذ عبر استخباراتها في أفريقيا مثلاً أو في بلاروسيا أو في روسيا نفسها من خلال عملية فردية محدودة؟
إذاً، استفادة روسيا من الاغتيال ليست واقعية، وفي المقابل، نرى أنّ الدول الغربية وأوكرانيا هي الأكثر استفادة من عملية الاغتيال، فمن جهة أولى، تمّ تحييد شخصية أمنية كبيرة كان لها دور بارز في انهاك الجيش الأوكراني، ومن جهة ثانية، تمّ إضعاف منظمة فاغنر في أفريقيا، وبالتالي الحد من قدرة روسيا على مواجهة النفوذ الغربي فيها، خصوصاً بعد انتشار المنظمة في كل من ليبيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وغيرها، واعلان بريغوجين في الآونة الأخيرة انه سيصنع مجد روسيا في القارة السمراء، ومن جهة ثالثة، إلصاق تهمة الاغتيال بالرئيس بوتين وإضعاف موقفه المحلي والدولي.
يبقى التساؤل هنا، ما هي قدرة استخبارات الدول الغربية و تحديداً الأوكرانية على تنفيذ هذه العملية بالقرب من موسكو؟
الجواب، أن الاستخبارات الأوكرانية نفذت عشرات الاغتيالات بعبوات ناسفة داخل روسيا وفي الدونباس والقرم أودت بحياة الكثير من الإعلاميين والمسؤولين الأمنيين والإداريين ، منهم الصحافية داريا دوغينا ابنة المفكر الروسي الكبير اسكندر دوغينا الذي يوصف بأنه العقل المدبّر لبوتين، كما أطلقت أوكرانيا العديد من الطائرات المسيرة في اتجاه موسكو، بعضها من داخل الأراضي الروسية نفسها بواسطة عملاء لها.
في الخلاصة، تبقى للتحقيقات والاطلاع على محتوى الصندوق الأسود الكلمة الفصل في الوقوف على الحقيقة كاملة، مع التأكيد أن اجتماع أخطاء بريغوجين القاتلة وانجازاته الباهرة تجاه وطنه، جعلت من عملية اغتياله موضع استغلال واستثمار في عدّة اتجاهات.