#الثائر
جاء في الراي الكويتية: كان يفترض أن يكون الأول من أيار يوم انتفاضة اللبنانيين على وضْعهم الذي لم تعد تكفي الكلمات لتوصيف انحداره إلى أدنى مرتبات الفقر والتقهقر الاجتماعي.
إلا أن عمّالَ لبنان وموظّفيه وأجراءه الذين انهارتْ رواتبُهم وحياتهم الاجتماعية نتيجة تدني قيمة أجورهم و«ذوبان» الليرة، لا يجدون في «عيد العمال» سوى يوم عطلة، من دون آمال بتحسُّن أوضاعهم المعيشية، ومع استسلامٍ للكوابيس التي تقبض على يومياتهم ولم تترك لهم سوى الإحباط واليأس بعيداً من أي ردّ فعل على مستوى المعاناة التي تحتّم نزولهم إلى الشارع اعتراضاً.
نكسة «عيد العمال» في لبنان اجتماعيةٌ وسياسية.
لأن المناسبة تذكّر اللبنانيين بأن حقوقهم مهدورة وأن حياتهم العملية تضيع عبثاً بعدما طارت مدخراتهم ومعها تعويضات نهاية الخدمة، وهم يتفرّجون على الفرنسيين يتظاهرون رَفْضاً لرفْع سن التقاعد سنتين ويتحضّرون لعيد العمال في الشارع.
ويرون أموالهم تضيع في صناديق الاستشفاء ومعاينة الأطباء ترتفع إلى ما بين 100 و200 دولار، فيما الفرنسيون يرفعون أصواتَ الاستنكار معترضين حتى على رفْع تعرفة الطبيب من 25 يورو إلى 26.50 يورو.
والنكسة الاجتماعية هي في ضياع اللبنانيين الذين ترتفع نسبة هجرة الفئة الشبابية منهم للعمل في المغتربات العربية والأفريقية والأوروبية، فيما تزيد نِسَب البطالة في «بلاد الأرز» نتيجة الأزمة الخانقة وانعدام فرص العمل في بلدٍ تنهار بنيته التحتية ويتراجع مستوى الخدمات فيه.
لم تَعُدْ الأغنيات «العمالية» هي التي تصدح في 1 مايو. غابت أغنيات مرسيل خليفة والشيخ إمام عن الطبقة الكادحة والعمال المُنْصَرِفين إلى أعمالهم صباحاً والعائدين بتعب النهار الممزوج بالحسرة على واقعٍ يتوغّل في الانهيار يوماً بعد آخر.
حتى أن لا أناشيد ولا قصيدة جديدة تعبّر عن حالات العمال في معاناتهم التي تَضاعفت في العامين الأخيريْن.
لم تَغب هموم هؤلاء... من صيادي الأسماك من صور وصيدا وجبيل وطرابلس وما تبقى من ميناء بيروت، الذين كانوا محرّكي التظاهرات العمالية في الشارع عشية عام 1975، إلى سائقي سيارات الأجرة، وعمال المصانع القليلة المتبقية في لبنان، إلى موظفي المستشفيات وعمال شركة الكهرباء، إلى آلاف الوظائف ومنها ما أصبح حكراً على عمال من جنسيات آسيوية أو مصرية وسورية، كمحطات الوقود، والعمال الزراعيين.
جميع هؤلاء لن يكونوا في الشارع اليوم، لأن ما خنقتْه الأزمة المعيشية في يومياتهم جَعَلَ اليأس يتسلل إلى قلوبهم ففقدوا الأمل في أن يكون الأول من مايو عيداً يحقق أحلامهم بغد أفضل، بفعل سلطةٍ أحكمت قبضتها حتى على الذين يُفترض أن يطالبوا بحقوقهم.
فالأزمة الاجتماعية التي لا تنفكّ تشتدّ، وكان من آخِر تجلياتها ما كشفتْه أرقام البنك الدولي المحدّثة للأمن الغذائي عن تسجيل لبنان أعلى نسبة تضخّم اسميّة في أسعار الغذاء حول العالم بين فبراير 2022 وفبراير 2023 (261 في المئة، نسبة تغيّر سنويّة في مؤشّر تضخّم أسعار الغذاء) متخطياً بذلك زيمبابوي (128 في المئة)، لا تنفصل عن السياسة وأزماتها التي كسرتْ النقابات منذ زمن الوصاية السوري واستخدمتْها في محطاتٍ سياسية وشعبية أساسية، واستمرّت على الحال نفسها بعد انسحاب الجيش السوري في أبريل 2005.
كثيرة هي النقابات والاتحادات التي ينضوي تحتها العمال، ولبنان من قلّة في المنطقة الذي انطلقت فيه حركةٌ نقابية تجذرت وكانت فاعلة جداً في الحياة اليومية لتحصيل حقوق العمال.
وما أن انتهت الحرب التي أطاحت بعمل الاتحادات النقابية، حتى جاء الوجود السوري والقريبون منه من قيادات سياسية، ليستخدم أدوات نقابية في خدمة مطامع سياسية، فتحوّل الاتحاد العمالي العام بعد النقيب أنطوان بشارة الذي روى كيف رَفَضَ الضغط السوري لوقف التظاهرة العمالية التي أدّت إلى إسقاط حكومة الرئيس عمر كرامي عام 1992.
وقد نشأت اتحادات ونقابات رديفة وتوزّعت طائفياً وحزبياً بين قوى موالية لسورية، قبل أن تستعيد المعارضة لدمشق بعد عام 2005 وجودها في نقابات المهن الحرة، لتبقى الاتحادات العمالية، ولا سيما في الأعوام الأخيرة، في يد السلطة المتوارَثة من زمن التسعينات.
وأدى ذلك إلى أن تتحول الاتحادات والنقابات الدائرة في فلك قيادات موالية لسورية مجرد واجهة لعملٍ نقابي لم يستطع أن يقدّم للحركة العمالية إنجازات تُذكر، قياساً لِما حققته الحركة النقابية قبل الحرب، سواء على صعيد التربية وإضراب المعلمين أو «الريجي» أو صيادي الأسماك، أو عمال مصانع الألبسة.
لا بل استُخدمت هذه الاتحادات في معارك السلطة ضدّ معارضيها، كما جرى قبل السابع من مايو عام 2008 حين كانت تظاهرات الاتحاد العمالي العام واجهةً لانقضاض «حزب الله» حينها عسكرياً على بيروت ومحاولته اقتحام الجبل.
علماً أن السلطة تمكنت بفعل ثغر قانونية من تطويع النقابات والاتحادات ولا سيما من خلال علاقتها بوزارة العمل، التي كانت في سنوات ما بعد الحرب حكراً على الموالين لسورية.
وفي الانطلاقة الأولى للعمل النقابي، كان الكلام عن دور اليسار اللبناني الذي ساهم في تأجيج التظاهرات والمطالبات بتحسين أوضاع العمال، لكن الخطاب اللاطائفي والعلماني لبعض اليسار اختفى تحت وطأة التدخل السياسي واحتواء الموالين لسورية لعددٍ من الاتحادات وصولاً إلى الاتحاد العمالي العام.
ومع تَراجُع دور الحزب الشيوعي تحديداً، انحسر دور الطبقة العمالية غير المنتمية إلى أحزاب تتقاسم النفوذ بين قوى 8 مارس ومعارضيها سواء من قوى 14 مارس أو من مستقلين.
أما ما أفرزتْه تظاهرات 17 أكتوبر 2019 من انتفاضةٍ شعبية ضد قراراتٍ حكومية، فشكل خرقاً للحالة الشعبية العمالية، لأن المتظاهرين لم يخرجوا من رحم الأحزاب ولا النقابات والاتحادات العمالية، بل انتفضوا على واقعهم حينها، لكنهم اليوم يقفون عاجزين عن النزول إلى الشارع رفضاً لما آلت إليه أوضاعهم في ظل أزمة سياسية مستحكمة يختزلها العجز المتمادي عن انتخاب رئيس للجمهورية.
إضافة إلى أن الفئات الشبابية التي كان يُعوّل عليها في إحياء حركة التظاهرات، أصبحت خارج لبنان حيث تحتفل بعيد العمال في أوطان تؤمّن لها الحد الأدنى من الحياة الكريمة.