#الثائر
- " اكرم كمال سريوي "
سجّل الأدب العربي في العصر العباسي، وخاصّة في عهد الخليفة المنصور، إشراقة ما زالت أنوارها حاضرة حتى أيامنا هذه، وحمل شعراء ذاك الزمن ناصية الإعلام، الذي لم يكن موجوداً كما نعرفه اليوم. فوحده الشاعر كان لسان حال الناس، وفي شعره يرسم صورة الحاكم والدولة، ويروي المعارك والأحداث والمآثر، ويخلّد أسماء الأبطال.
الجميل في ذاك الزمن، هو أنه لم يكن من مطرحٍ لصغار الشعراء والكتاب، الذين يسقطون في أول امتحان لهم، ولن يصمد ويرتقي، إِلَّا من استحق المجد بجدارة، فتطير قصائده بين الأمصار والأقطار، عابرةً فوق كل الحواجز والحدود، حتى قال ابو الطيب المتنبي:
وَمَا الدّهْرُ إلاّ مِنْ رُواةِ قَصائِدي
إذا قُلتُ شِعراً أصْبَحَ الدّهرُ مُنشِدَا
في عام 1258 سقطت بغداد في أيدي المغول، فأحرقوا مكتبتها، ودفنوا العصر الذهبي للأدب العربي، ليحلّ بعده عصر الانحطاط، ويستمر حتى نهاية الحكم العثماني، الذي قضى أيضاً على كل المفكرين العرب.
رغم بشاعة عصر الانحطاط، الذي اتّسمت فيه الكتابة، بالضعف، والسطحية، والزخرفة، والسخف، كان هناك أعلام كبار في مجالات العلم، من أمثال؛ ابن خلدون، ونصير الدين الطوسي، وابن عريشاه، وغيرهم، لكنهم لم يُفلِحوا في إنقاذ الأدب العربي، الذي انتظر حتى مطلع القرن العشرين، ليبدأ عصر الإشعاع والنهضة، هذه المرة من بيروت، حاضنة الفكر والأدباء والكتاب العرب، إلى جانب القاهرة، التي تحررت من العثمانيين، وأطلقت من جديد شعاع الحرية للأدب والكتاب.
احمد شوقي، ومحمود عباس العقاد، وطه حسين، وجبران خليل جبران، وخليل مطران، والمعلم الصحافي بطرس البستاني، ورشيد تقي الدين، وايليا ابو ماضي، والأديب الصحافي مارون عبود، وميخائيل نعيمة، وسعيد عقل، ومي زيادة، وغيرهم العشرات حملوا لواء النهضة، ليرفرف عالياً، ويسطع نجمهم في كل أنحاء العالم العربي.
عرفت بيروت أهمية الكتابة وحرية الفكر، فشكّلت واحة للأدباء والشعراء العرب، ولم يتخلّف أبناء لبنان، فأرسوا ركائز الإعلام الحر، والكلمة الجميلة.
نَعِم الإعلام اللبناني لسنوات طويلة، بنوابغ وأقلام ذهبية، وكانت المقالات هادفة وممتعة في آن، وقراءة الجرائد والمجلات اللبنانية، كانت تُعتبر ثروة فكرية.
كِبار وضعوا اللبنة الأولى، وعلى كواهلهم قام صرح الصحافة اللبنانية، إصداراً و تحريراً، من أمثال خليل الخوري، رشيد الدحداح، بطرس البستاني، أحمد فارس الشدياق، يوسف الشلفون، لويس صابونجي، سليم البستاني، أديب أسحق، ابراهيم اليازجي ويعقوب صروف، وغيرهم.
وفي الماضي القريب، كانت افتتاحيات الجرائد اللبنانية، بأقلام كمال جنبلاط، وغسان التويني، وطلال سلمان، تجعل القارئ مشتاقاً لمصافحة الصحف قبل شروق الشمس.
فهؤلاء أرسوا دعائم الصحافة، واختطًوا للنثر إسلوبه البليغ المرسل، وبفضل هؤلاء طبع الأدب الصحافة بطابعه، زمناً طويلاً، فترسّمت خطاه، وتوكأت على ساعده، ونهلت من معينه، وتأثّرت بلغته وسحر بيانه.
لن أحدّثكم عن الصحف اللبنانية، وكُتّاب اليوم، والصفحات الصفراء، واللغة الركيكة، وشتاء الأخطاء، ونحر اللغة العربية، وسفاف العبارات، ورداءة وبذاءة المقام والمقال، لدى غالبية المتعمشقين على الأدب والشعر والصحافة، لإن هذا كلام يطول ويطول، ويحتاج إلى مجلدات.
لذا سأستعيض عن ذلك، بذكر قلم ذهبي لبناني، ما زال يُنير عالم الصحافة والصحافيين، ويذكّرنا بزمن الكبار في لبنان.
يُدهشك بسلاسة أفكاره، وجمال سبكه للعبارات، وسِعة اطلاعه، ومخيّلته وعبقريته. طوّع الحروف حتى باتت رهن بنانه، يرسم بها لوحات تشكيلية، فيجعل مقاله أشبه بلوحة فنية، تناسقت ألوانها وسطعت تجذبك بشدّة، فتتمنى أن لا ينتهي المقال، كي لا تنتهي متعة القراءة.
الخبر، المصداقية، الأدب، التسويغ، البلاغة، التسلسل، الحبكة، السهولة والسلاسة، وفن الرواية، كل هذا ستجده في كتابات غسان شربل (رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط)، الممتعة والمفيدة.
لا أغار من أحد، ولم أحسد أحداً يوماً، وأنا الذي يشعر بأن ذاك المتنبي المغرور، يسكن بين أضلعه، ولم ينكسر حتى يوم قُتل مهزوماً، وأرى أنه استحق اعتزازه، بل حتى غروره، فهل جاء الزمان بمثله؟؟؟
أقول: شكراً غسان شربل، على ما جاد ويجود به يراعُك، في زمنٍ ضاعت فيه الكلمات، وأحرق مغول الكتابة وصحافة اليوم كل أعمدتها، حتى باتت حطاماً وهباءً منثوراً!!!
لَك منا في موقع "الثائر" كل الود والتقدير والاحترام.