#الثائر
في الأسبوع الثاني على خروج الرئيس ميشال عون من قصر بعبدا في نهاية ولايته الرئاسية، برزت عملية "تهويل" من مغبّة إطالة أمد الشغور الرئاسي، فبدت كأنها عملية ممنهجة ومنظّمة من الداخل والخارج على حدّ سواء.
وقد تجلّت ذروة هذه المناخات في الكلام الذي أطلقه رئيس مجلس النواب نبيه بري أخيراً أمام وفد نقابة الصحافة، وفحواه التحذير من "أن لبنان قد لا يحتمل (تداعيات الشغور ووطأته) أكثر من أسابيع"، مستدركاً بأن الأولوية يتعيّن أن تُعطى لملء الشغور عبر الإتيان برئيس جديد يعيد إنارة قصر بعبدا.
ولعلّ هذا الكلام، بحسب "النهار" يبقى سلساً وناعماً وملطَّفاً وربما مقبولاً إزاء الكلام المسهب الصادر قبيل وقت قصير عن الإدارة الأميركية على لسان مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، عندما تحدثت أمام جمع من النواب والمسؤولين الأميركيين عن سيناريوهات عدة منها أن "الحراك الشعبي في لبنان سيندلع مجدداً". والأبعد من ذلك، أن المسؤولة الرفيعة المستوى لفتت أيضاً إلى سيناريو أن "تفقد القوى الأمنية (في بيروت) السيطرة على الوضع" وأن هذا الوضع الفالت من عقاله سيدفع ببرلمانيين لبنانيين للمسارعة إلى حمل حقائبهم والمغادرة إلى حيث سبقتهم أموالهم للإقامة في الخارج في شقق وأبنية مملوكة لهم. كما لمّحت إلى أن هذا الانهيار هو "الذي سيحرّر لبنان من حزب الله".
لم يكن كلام سيد عين التينة وما صدر عن الإدارة الأميركية المعنيّة منطلقاً من فراغ أو من سماء صافية، إذ إنه وفق المعلوم حفلت قبيل وقت قصير وسائل إعلام لبنانية على اختلاف مشاربها وميولها بفيض من التكهّنات عن تفلّتات أمنية آتية ساعتها مقرونة بالأسوأ، وهو عجز القوى والمؤسسات الأمنية المكلّفة ضبط هذا الفلتان وعن إحكام السيطرة على الأوضاع.
وأرفق هذا الكلام بسيناريوهات متعدّدة لمثل هذه الأوضاع، ما اضطرّ قائد الجيش العماد جوزف عون إلى نقض هذه السيناريوهات القاتمة والتأكيد أن المؤسسة العسكرية ما انفكت قادرة على الضبط والربط ومنع حصول الفلتان الذي يكثر التحذير منه والتهويل به.
وحيال كل ذلك، فإن السؤال الذي يفرض نفسه: مَن الذي يبادر إلى قرع أجراس التهويل والتحذير على وقع استمرار الشغور الرئاسي؟ واستطراداً لمن تُقرع وما المراد من افتعال هذه المناخات التهويلية وتصويرها على أنها قاب قوسين أو أدنى وجعلها تطغى على ما عداها من استحقاقات وملفات مصيرية على نحو يجعل البلاد وكأنها على كف عفريت أو صفيح ساخن؟
الواضح، وفق قرءاة مصادر عليمة، أن لكل من المنبّهين والمحذّرين والمهوّلين "موّاله الخاص" وهدفه المرتجى الذي يختلف ويتشعّب وإن تقاطع على خطاب التحذير.
فالرئيس بري يريد بكلامه هذا أن يحقق جملة أمور بصيحة واحدة أبرزها:
- أنه يبغي أن يثبت عملياً أنه قادر على الإمساك بزمام الأمور التي انتقلت إليه تلقائياً بصفته رئيس السلطة التشريعية المؤتمنة على المسار الدستوري في البلاد.
- وفي الوقت عينه، يريد أن يوصل رسالة إلى من يعنيهم الأمر مفادها أنه انتقل لتوّه إلى طور "الطابخ" الأكبر للرئيس المقبل وأنه صار قطب الرحى في هذا الاستحقاق الحسّاس.
ومصداق ذلك ظهر في لقائه الأول مع رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط الذي أوحى بعد هذا اللقاء عن منبر عين التينة أنه فتح الباب أمام رحلة البحث عن رئيس لا تنطبق عليه صفة "رئيس التحدّي"، وهي الصفة التي رفع لواءها باكراً قبل أن ينضم إلى دائرة تزكية النائب ميشال معوّض.
وثمة بطبيعة الحال من القارئين السياسيين من ذهب إلى البناء على مشهد اللقاء بأن بري وجنبلاط قد أعطيا بلقائهما الإشارة لترسيخ تحليل فحواه أنهما باتا سيدَي اللعبة من الآن فصاعداً وأن تفاهمهما ينتج رئيساً في لحظة معيّنة والعكس سليم.
وثمة من يمضي إلى أبعد من ذلك عندما يستنتج أن أداء هذين الزعيمين المخضرمين في هذه اللحظة هو بمثابة رسالة إلى من يعنيهم الأمر بأن صفحة المرحلة التي اضطرا فيها قبل ستة أعوام إلى التسليم بالأمر الواقع من خلال رئاسة عون طويت، وأن ثمة صفحة أخرى قد فتحت للتوّ. والقرءاة نفسها مقرونة بكلام سرّى في الكواليس السياسية فحواه أن هذين اللاعبين الخبيرين يريدان عدم حصر الأسماء المرشحة بالثلاثي المعلوم والمؤلف من سليمان فرنجية وجبران باسيل والعماد جوزف عون. ويعزو ذلك إلى عجز "حزب الله" عن أداء تعهّد ضمني كان قد أعطاه بإقناع باسيل بتأييد فرنجية ليمسي مرشَّحاً يُعتدّ به.
أما الكلام الأميركي المفاجئ بالتوقيت والمضمون فهو وفق عارفين ينتمي إلى فضاء آخر غير فضاء الرئاسة الأولى والجهود الرامية إلى إنتاج رئيس جديد، إذ إنه يندرج في سياق صراع الإرادات الدائر منذ زمن بين واشنطن و"حزب الله" على الساحة اللبنانية، وامتداداً إلى ساحات إقليمية أخرى. فالإدارة الأميركية بكلامها هذا إنما تمسك الحزب في خاصرته الرخوة أو اليد التي توجعه بل وترعبه من خلال الكلام عن عودة الفوضى والفلتان فهي (الإدارة) تريد أن توصل للحزب رسالة فحواها أن تسهيلكم لعملية الترسيم البحري على بلاغتها ليست كافية لتنالوا "الصفح والعفو"، واستطراداً لكي تحلموا بأخذ جوائز ترضية من خلال الرهان على إمكان الإتيان برئيس تباركونه وفق ما روّج له البعض في بيروت غداة نجاح عملية الترسيم التي مرّت كما هو معلوم بمخاضات صعبة جداً.
وبناءً على ذلك، ثمة من يقرن هذا الاستنتاج باستنتاج رديف، وهو أن الحسابات العميقة والمعقَّدة للإدارة في واشنطن تمنعها من أن تعطي لإيران وحلفائها في الإقليم ما يريحهم ويبديهم رابحين في بيروت وبغداد في آنٍ واحد، إذ إن واشنطن تتصرف على أساس أن لكل بيدر من البيادر حسابه الخاص.