#الثائر
* د. عصام نعمة إسماعيل
وفق قواعد علم السياسة فإنّ الركن الأساسي في تكوين الدول ليس السلطة بكافة تنظيماتها ولا الأرض بمختلف أشكالها، إذ إن كليهما وُجدا لخدمة المجموعة البشرية التي تُقيم على هذه البقعة الجغرافية. وهذه المجموعة البشرية يقتضي لكي تصلح لتكوين ركن الشعب أن تكون متّصفة بخاصّتَي الثقافة المشتركة والتنظيم. فالثقافة المشتركة بين كافة المكونات هي الفكرة التي تربط بين الناس في مجتمعٍ واحد، وتثبت انتماءهم لهذه المجموعة، وهذه الفكرة قد تكون دينيّة (المذاهب والطوائف)، إتنيّة (القوميات والأصول)، علمية (التفوق الحضاري)، جغرافية (مقولة: بريطانيا هي جزيرة وكل الباقي يلحق)، تاريخية (التمسك بالحضارات القديمة: فرعونية، فارسية، فينيقيّة)، فلسفية (الشيوعية)... بالاستناد إلى معيار الثقافة، يمكن أن نجد ثقافة واحدة حاكمة أو تعدّد الثقافات في الدولة الواحدة، في الحالة الأخيرة يقتضي أن يكون هناك تنظيم قادر على إدارة هذا التنوع الثقافي وخلق فكرة مشتركة قادرة على جذب هذه الجماعات البشرية وتحقيق الالتحام في ما بينها حول هذه الفكرة بمعزلٍ عن الاختلافات الأخرى.
كولاج لـ إيتشي (فرنسا - 2018)، عن Behance
ولهذا كانت الدولة قائمة ليس على مجرّد فكرة وجود الشعب وإنما على وجود مجموعة إنسانية تتميز بالثقافة المشتركة والتنظيم، أما الدولة التي لا يكون لشعبها ثقافة واحدة جامعة، يُمكن أن توصف بأنها دولة ذات وحدة فاعليّتها غير مكتملة.
وهنا يأتي دور القيادة العليا التي يُفترض أن يكون هاجسها بناء الدولة والتخطيط لاستمراريّتها وقوّتها، وتطبيق هذا المنطق على الحالة اللّبنانية يفترض بالسلطات الدستورية أن تعمل على وضع الخطط اللازمة لإدارة التعدّد في المجتمع اللبناني وأن تعوّض الثغرة المتمثّلة بتعدّد الطوائف والمذاهب من خلال تقوية خاصيّة تنظيم هذه التعدّدية من خلال خلق فكرة مشتركة تجمع هذه الأطياف المختلفة، ولقد أوجدت وثيقة الوفاق الوطني فكرة العيش المشترك من خلال التوافق في التقرير أو القيادة الجماعية في سلطة القرار ومنع هيمنة فريق على آخر أو الغلبة أو القهر لمكوّن لبناني، وأضافت إليها فكرة إلغاء الطائفية السياسية التي لم توضع موضع التطبيق بل لم توضع أسسها لناحية خلق فكرة مشتركة يجتمع حولها جميع أبناء الطوائف.
لذا فإن كلتا الفكرتين لم تنجحا في إدارة التعدّد، فلا العيش المشترك جرى احترامه ولا إلغاء الطائفيّة جرى تنفيذها. ولم تتنبه السلطات الدستورية إلى أن فشل إدارة التعدّد سيعزّز مؤشّر انتهاء الدولة، لأنه في النظرية السياسية إذا كانت الثقافة ضعيفة فهذا مؤشّر على أن حياة الدولة ستكون قصيرة، وحتى ولو كان التنظيم قوياً واستخدم الإكراه في سبيل الحفاظ على وحدة الدولة، فإنّه سيأتي الوقت الذي تتمزّق فيه أوصال هذه الدولة، وبالعكس فإنه إذا ما دعم الشعب فكرة وكانت الثقافة لديه متينة ومقبولة شعبياً وبصورة طوعية لا فرضاً وإكراهاً، فإن هذه الدولة تكون متينة وعصيّة على الهزيمة أو السقوط أيّاً كانت الصعوبات التي تواجهها.
وهكذا لا زلنا نبحث -نيابة عن الدولة- عن فكرة مشتركة تسمح بتنظيم الاختلاف في مكّون الشعب اللبناني، والسبب في أننا نعمل نيابة عن الدولة، أن السلطات الدستورية في الفترة الحالية والسابقة غير عابئة ولا مهتمة بالبحث عن حلول دائمة، بل ولا حتّى مؤقّتة، وهذا ما كشف عنه مقرّر الأمم المتحدة المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان بعد اختتام زيارته لبنان بتاريخ 12/11/2021 عندما وصف المسؤولين اللبنانيّين، بأن: «ليس لديهم أي شعور بضرورة التحرّك العاجل أو العزم اللازم لتحمّل مسؤوليّاتهم إزاء أزمة اقتصادية أدّت إلى إفقار وحشي للمواطنين». وبحسب قول حسن الرفاعي إن الطّامّة الكبرى تكمن في رجال يعتدون على النصوص والمفاهيم الدستورية ويفسرونها وفقاً لأهوائهم. رجال يتقاتلون على المناصب ويتفقون على المكاسب عِوَض أن يعملوا بجدٍّ وتفانٍ من أجل حماية الوطن ورفاه أبنائه، فليس للقانون الدستوري من ضابطٍ سوى حسن نيّة الرجال الذين يطبّقونه، وأمانتهم (حسن الرفاعي، العلّة أوّلاً في الرجال، جريدة النهار 27 أيلول 2018).
وللأسف فإن هذه السلطات التي وقع الخلاف فيما بين أعضائها إلى حدّ الاختلاف، وتعمل دائماً على تعطيل المؤسّسات متناسية أن واجبها على حدّ قول المجلس الدستوري أن: «تحافظ على انتظام أداء المؤسسات الدستورية الذي هو أساس الانتظام العام في الدولة، وبمقتضاه فإن كل مؤسسة دستورية تقوم ودون إبطاء، بالمهام المناطة بها، ضمن الصلاحيات المعطاة لها (م.د. قرار رقم 7/2014 تاريخ 28/11/2014 الصادر بالطعن في قانون تمديد ولاية مجلس النواب).
(مطلوب مؤسّسات جادة تعمل على تحقيق فكرة المواطنة، وتحرص على تطبيق الدستور الذي كرّس فكرة الوطن النهائي لجميع أبنائه، وإلغاء الطائفية السياسية)
هي إذاً سلطة غائبة لا تهتم بوضع الاستراتيجية العليا في الدولة، التي يقتضي أن تكون قائمة على أساس نظام دستوري متكامل ومتناسق لا يحتمل أي خلل بتركيبة السلطة العليا أو تشتّتها، ما يجعل من المستحيل أن ترسم سياسة عامة قابلة للتطبيق ليس فقط بسبب التشرذم والاختلاف بين أركان القيادة العليا بل أيضاً بسبب انعدام منطق الاستمرارية، لأن كل جهة سياسية لا تكتفي بشعار اللامبالاة تجاه القضايا الوطنية بل أيضاً تلغي ما قام به السلف وتبدأ من جديد ما يؤدّي إلى هدر الوقت والطاقات ويعرقل الإنتاجية ويضيّع الخطط ويفشلها.
وفي إطار البحث عن فكرة جامعة لأطياف الشعب اللبناني، منهم من طرح فكرة الفدرالية معتبراً أنها فكرة قادرة على تنظيم الاختلاف، ومنهم من طرح فكرة الأمة اللبنانية ذات التاريخ العريق والحضارات المتعاقبة بدءاً من الحضارة الفينيقيّة، لأن الأمة هي توصيف للشعب في مرحلة من مراحل تطوره، حيث تبدو الأمم كمجتمعات تاريخية لكلٍ منها نسب مشترك، فأصول أمم اليوم ترجع إلى قبائل الأمس، ومنهم من اعتبر أن اللامركزية الإدارية الموسعة قادرة على تحقيق ذلك، ومنهم من طرح فكرة حيادية الشأن العام معتبراً أن القاسم المشترك الذي يجمع اليوم بين اللبنانيين هو الشأن العام، وقد أسّس نظريّته على مقدّمة الدستور التي ورد فيها أن لبنان جمهورية، وتعبير «جمهورية» يأتي من الكلمة اللاتينية Res publica وهي تعني «الشأن العام»، وأن هذا الشأن العام هو الجامع والقاسم المشترك بين المواطنين، والذي يجب أن يكون بطبيعته منفصلاً ومتمايزاً بشكل واضح عن الشأن المتعلق بالجماعات الدينية التي ينتمي إليها اللبنانيّون والتي تبقى وتحفظ تراثها ويضمن القانون لها خصوصيّتها وحرية معتقدها وشعائرها وحرية إدارة شؤونها. (زياد شبيب، النظام الجديد، جريدة النهار تاريخ 3/12/2021)، ومنهم من رأى بأن الحل يكمن في إيجاد قيادة سياسية رشيدة، معتبراً أن المشكلة تكمن في ضعف القيادة العليا وسوء أدائها، و«أنه يجب البحث عن رجال سياسة هم على خلق عظيم! من هنا نبدأ. إلى هذا يجب أن يكون الاتجاه رجال ونساء على خلق عظيم» (عبد الحميد الأحدب، الهوية الضائعة... كيف نسترجعها؟، جريدة النهار تاريخ 30/11/2021)، ومنهم من اختار المواطنة كفكرة جامعة، قادرة على الانتقال من الطائفة إلى الانتماء إلى الدولة.
هذه المواطنة هي قناعة أفراد الشعب بانتمائهم إلى الدولة والارتباط بها والولاء لها (أو ما سمّته وثيقة الوطن بالانصهار الوطني، وباختصار فالمواطنة هي انتماء وولاء، وعنصر الانتماء مشار إليه في مقدمة الدستور أن لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، وقد رأى زياد شبيب أن هذا الانتماء قد ترسّخ نهائياً خلال مئة عام مضت بصراعات وويلات، وفصلت بينهما هدنات نسبية شهدت ازدهاراً موقّتاً. وهذا الانتماء أصبح عنصراً جامعاً يُؤسّس عليه لصياغة مستقبل الوطن رغم الانهيارات التي نعيشها راهناً. (زياد شبيب، النظام الجديد، جريدة النهار تاريخ 3/12/2021).
يبقى البحث عن العنصر الثاني وهو الارتباط الفكري والولاء المطلق والانصهار في الكيان اللبناني الجامع، وكانت المشكلة أن الولاء في لبنان هو للطائفة والحزب والعشيرة وله الأولوية على الولاء للوطن، وهذه المشكلة هي مزمنة عائدة إلى تاريخ تأسيس الدولة، فالشعب متنوع فيه مكونات دينية، لم تنجح حتى اليوم بإقامة نظام حكم يقوم على المواطنة والمساواة والحكم المدني العادل في إطار جدّي من الضمانات لحماية التنوع وضمان عدم طغيان جماعة واحدة أو ائتلاف جماعتَين أو أكثر على الآخرين (زياد شبيب، النظام الجديد، جريدة النهار تاريخ 3/12/2021).
هي طبعاً ليست فقط أمور مادية بل فكرية وأخلاقية، هي مسؤولية رجال يصنعون من الدولة مأوى وملاذاً ومحل فخر أبناء الشعب، هي عمل مؤسسات جادة على تحقيق فكرة الوطن والمواطن، وحريصة على تطبيق الدستور الذي كرّس فكرة الوطن، بدءاً من المقدّمة التي تحدثّت عن الوطن السيّد والوطن النهائي لجميع أبنائه، ووطنية الهدف المتمثّل بإلغاء الطائفية السياسية، ثمّ تكريس الدستور اللغة الوطنية في المادة 11، وحديثه في المادة 21 عن الوطني الذي يحق له الانتخاب، وتكريسه في المادة 22 فكرة مجلس النواب الوطني لا الطائفي، وفي المادة 49 جرى إطلاق حيادية رئاسة الجمهورية التي منحت دوراً متمثلاً بكونها رمز وحدة الوطن.
إضافة إلى الدستور فإن المواثيق اللبنانية لم تغفل الإشارة إلى فكرة المواطنة، فلقد أوجبت وثيقة الوفاق الوطني العمل على تعزيز الانتماء والانصهار الوطني، كما أوجبت وثيقة الدوحة عدم الخروج على عقد الشراكة الوطنية القائم على تصميم اللبنانيّين على العيش معاً في إطار نظام ديموقراطي.
إذاً فالمواطنة كفكرة جامعة مشتركة لها أسس دستورية، وهي فكرة قابلة للتطبيق، بخاصة وأننا لا نحتاج للكثير من أجل إقناع اللبنانيّين بأن لبنان بلد أمان وطمأنينة لهم وأن ضمانات رعاية حقوقهم ومصالحهم متوفرة، وأن السلطات كافة ساهرة على أمن وسلامة والوطن واستقراره وسلامة المواطنين، تسعى جاهدة لجعل الشأن العام حيادياً يقدّم الخدمة للجميع بدون تمييز أو تفضيل.
*- أستاذ مادة القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية