#الثائر
د. عصام نعمة إسماعيل
للمال العام أثر بيّن على كيانية الدولة وسيادتها، فالدولة التي لا تحافظ على ثروتها من المال العام هي دولة ستصير يوماً فاقدة لسيادتها وقرارها الحر ، حيث كان التعريف القديم للدولة يقوم على ثلاثية الأرض والشعب والسلطة، اعتمد هذا التعريف عندما كانت الأرض هي الثروة الوحيدة مصدر استقطاب الشعوب، اما اليوم فإن الأرض لم تعد وحدها كافية لتعريف الدولة، حيث برز مصطلح المال العام ليكون عنصراً أساسياً في تكوين الدولة، وانتقاص السيادة لم يعد مقتصراً على خروج أرض من سيطرة الدولة، بل يمكن اعتبار أن التعدي على المال العام يؤدي إلى انتقاص السيادة،
وفي واقع الشعوب والأمم إن التعدي على المال العام لا يقتصر أثره على خسارة الدولة لجزءٍ من مالها، بل إن آثاره أكبر، فهذا التعدي على المال العام إذا ما ابتدأ ولم يكن هناك رقيب ولا محاسب، فإن أثره سيطال الدولة التي ستصبح إما عِرضةً للاحتلال من دولٍ أُخرى أو خاضعة لإملاءات وشروطٍ خارجية، أو ستفقد القدرة على الحكم واتخاذ القرارات. أو ستصبح خاضعة ذليلة خائفة ترتجي المساعدة وتنفّذ التعليمات التي تتلقاها دون أن يكون لها يد في مناقشة أو مفاضلة، ومن يقرأ الاتفاقيات الدولية التي أبرمها لبنان خصوصاً ذات الطابع المالي نجدها أقرب إلى عقود الإذعان والطاعة، بل وصل التطاول على الدولة اللبنانية حتى إلى الشركات الكبرى التي تتعامل معها، فمثلاً العقد المبرم مع شركة ALVAREZ&MARSAL MIDDLE EAST LIMITED" للتدقيق الجنائي تضمّن بنوداً جزائية وغرامات على الدولة اللبنانية وشروطاً لا يمكن لشركة خاصة القبول بها، ومع ذلك قبلتها الدولة ووقعت العقد شعوراً منها بالعجز والضعف بمواجهة حتى شركة.
إن هذه النتائج الكارثية الناجمة عن تبديد المال العام تستدعي التحرك السريع لاسترجاع الدولة أموالها، وبالفعل صدر القانون رقم 214 تاريخ 2021/4/8 استعادة الأموال المتأتية عن جرائم الفساد، الذي نصّ في مادته الأولى على أن يرعى هذا القانون سائر عمليات استرداد الأموال من أي نوع كانت المتأتية عن جرائم الفساد، سواءً وجدت داخل الأراضي اللبنانية أو في الخارج، وسواءً بقيت بملكية مرتكب الجرم أو حيازته أو انتقلت إلى ملكية أو حيازة شخص ثالث.
إن قانون استعادة الأموال المتأتية عن جرائم الفساد لم يحصر عملية الاسترداد على الكتلة النقدية التي تعتبر من الأموال العامة وفق المادة الثانية من قانون المحاسبة العمومية التي عرّفت الأموال العمومية بأنها:" أموال الدولة، والبلديات والمؤسسات العامة التابعة للدولة أو البلديات، وأموال سائر الأشخاص المعنويين ذوي الصفة العمومية". بل يضاف إليها طبعاً الموراد البترولية التي نصّ القانون رقم 132 تاريخ 2010/8/24 بأن: تعود ملكية الموارد البترولية والحق في إدارتها حصرا للدولة.وكذلك فإن هذا القانون أيضاً أدخل في الحماية الأموال العامة بطبيعتها ما يقتضي تأمين الحماية للأملاك العامة البرية والطرقات وسكك الحديد والمباني الرسمية والأحراج والغابات والمطارات والموانئ وكافة المرافق العامة وأراضي المشاعات التي تمّ وضع اليد عليها، إما أثناء أعمال التحديد والتحرير أو عبر تزوير وثائقها أو بالاستيلاء، أو بهبات قدّمها الاحتلال الفرنسي رشوة لعملائه والمخلصين له.
وكذلك يدخل في حماية هذا القانون الأملاك العامة البحرية التي تمّ وضع اليد عليها خلافاً للأصول ولم تنجح كافة القوانين الصادرة في استردادها، وكانت التسويات تقتصر على تسديد الغرامات دون المساس بواضعي اليد ولا إزالة تعدياتهم بالرغم من أن القانون يوجب هدم هذه التعديات فوراً (المادة 23 من القرار رقم144/س تاريخ 1925/6/10 المعدّلة بموجب مشروع القانون المنفذ بالمرسوم رقم 15403 تاريخ 1964/2/13) الذي أوجب هدم الاشغال المقامة بصورة غير مشروعة على الاملاك العامة أو مناطق الارتفاقات، عفوا ودون حاجة لأي معاملة".
ومن يرجع إلى المادة 30 من قانون موازنة العام 1990 الصادرة بموجب القانون رقم 14 تاريخ 1990/8/20 نجد أنها خصّت حماية للأملاك العامة بأولوية خاصة، حيث نصّت على أنه:" تعتبر باطلة بطلاناً مطلقاً ويحظر على أي جهة رسمية ترتيب أي أثر قانوني عليها، جميع الأعمال والتصرفات والتدابير الحاصلة خلافاً للقواعد والأصول المقتضاة قانوناً وبصورة خاصة ما يلي:
أ- ....
ب- إشغال الأملاك العامة البحرية الحاصلة دون استصدار مراسيم تجيزها ولا يترتب للشاغل الفعلي بصورية غير قانونية أي حق مكتسب مهما كانت مدة إشغاله.
ج- الإشغال المؤقّت للأملاك العامة أو البلدية واستثمارها خلافا للأصول وكان حاصلً بمقتضى ترخيص من المرجع المختص.
فكانت هذه القوانين واضحة في إقرار قاعدة: أن حماية أو صيانة الملك العام والمحافظة عليه هو موجب طبيعي وقانوني مُلقى على عاتق الشخص المعنوي العام، وأن هذا الموجب هو إلزامي وله طابع دستوري"( م.ش.د، القرار الرقم 242/2014-2015 تاريخ 2014/12/18، سلطانة فرنجية وآخرون/ وزارة الداخلية والبلديات).
ولما صدر القانون رقم 64 تاريخ 2017/10/20 تعديل واستحداث بعض الضرائب والرسوم فإنه خصص المادة 11 لمعالجة الإشغال غير القانوني للأملاك العامة البحرية، والجيّد أنه لم يجعل من هذه المعالجة صكّ براءة للمعتدين وإنما كان مقتصراً على كونه تسوية للعقوبة المفروضة على المخالفة واستبدالها بالغرامة، وبحسب النص إن:" معالجة الإشغال غير القانوني للأملاك العامة البحرية لا يرتّب للمخالف أي حقوق مكتسبة بوجه الدولة التي لها الحق في أي وقت إلغاء هذا الإشغال واسترداد أملاكها العامة البحرية دون أن يستحق للمخالف جراء ذلك، أي تعويض مالي، من أي نوعٍ كان. ... وأنه في حال عدم استحصال الشاغل على المرسوم تتابع الملاحقات الجزائية وتضع الادارة يدها على الاملاك العامة البحرية المشغولة ويتم إخلاؤها.
هذه الحماية التشريعية والقضائية للأموال العامة للأسف لم تواكبها إجراءات إدارية رادعة بالرغم من تملّك الإدارة الوسائل الكافية والضرورية من أجل إزالة التجاوزات عن الأموال العامة.