#الثائر
الثائر يعيد نشر مقالة للرئيس ميشال سليمان - 28 حزيران 2019
سألني ذات مرة أحد رؤساء الدول الكبرى خلال لقاء ثنائي، لماذا يطالب مسيحيو لبنان دائماً بالمناصفة في كل المناصب والمواقع وهم يتغنون في نفس الوقت بالديموقراطية وعراقتها في بلادهم؟
ad
أجبته على الفور إن «لبنان أكثر من وطن إنه رسالة» وفقاً لوصف البابا القديس يوحنا بولس الثاني. من أجل ذلك، الاعتماد ليس على عدد المسيحيين المقيمين في لبنان. أما إذا أخذنا بالاعتبار دور لبنان الرسالة، فهو صيغة تفاعل حضارات وعلى هذا الأساس يستحق المسيحيون المشاركة في النصف بجدارة ولا بدّ من الإشارة إلى أن حجم هذه المشاركة هو مطلب ورغبة المسلمين اللبنانيين قبل كل شيء، في حين أن بعضهم لا يرى ضيراً في تخطي النصف.
في عز الشعبوية التي تجتاح المجتمع السياسي اللبناني للظهور بمظهر الدفاع عن حقوق الطوائف، لا بل حقوق التيارات والعائلات في إطار أقضية مستقلة أو أقل، لا بد من قراءة هادئة متجردة لحقوق اللبنانيين تحت عنوان حقوق المسيحيين.
فعلاً أن لبنان صيغة تشاركية للحضارات عبر تاريخه وجغرافيته وكما أراده المؤسسون، من البطريرك الياس الحويّك عام 1920 عرّاب دولة لبنان الكبير الذي حقق الكيان، إلى ميشال شيحا أب الدستور اللبناني، إلى الميثاق الوطني الذي تفاهم عليه بشارة الخوري ورياض الصلح بعد الاستقلال عام 1943 والذي تم تثبيته في وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف 1989).
تفاعل الحضارات هو صلب صيغة لبنان، كما وصفه ميشال شيحا، معتبراً أن مجلس النواب عندنا ليس وليد مفهوم ديموقراطي للحياة الوطنية وحسب. المجلس، قبل أن يكون واحة تعبير ديموقراطية، هو نقطة الالتقاء الضرورية بين المذاهب المتحدة في لبنان.
إنه «المظهر الرسمي لإرادة الحياة المشتركة، بل إرادة الحكم المشترك»... وأردف في مكان آخر «مجلس تلتقي فيه الطوائف ولو لتتقاتل بدل أن تتقاتل خارج المجلس، في ظل الكنيسة والجامع».
من غير المنطقي حصر حقوق المسيحيين بمنصب أو مناصب أو بالانتماء السياسي للمرشحين المسيحيين لأي موقع كان، ومن المعيب أن نقسِّم المسيحيين في لبنان إلى مسيحي أصيل ينتمي إلى حزب معين ومسيحي «تقليد» لأنه ليس من ذاك الحزب... ناهيك بالتمييز المقيت الذي يُفرّق بين مسيحي مُنتخب بأصوات مسيحية ومسيحي مُنتخب من قبل المسلمين، أو بين المرشحين للوظائف الإدارية من قبل الأحزاب المتنافسة.
المسيحي كما المسلم قيمته بحضارته وليس بسياسته، وإلا سنصبح أسرى العددية وليس التعددية. هكذا يتعثر لبنان كما يقول ميشال شيحا «إذا كانت كل طائفة تعيش والميزان في يدها، تضع وزيراً قبالة وزير، وحاجباً قبالة حاجب، فتسوق لبنان إلى حدود الحلول المستحيلة». والعدالة إذا أكثرنا من موازنتها تنقلب ظلماً لأنها تُبعدنا عن مكسب الطائفية الوحيد، الذي تعلمناه عبر الأجيال: «التسامح والتعايش».
ولأن لبنان مجموعة أقليات حديثة وقديمة فإن حقوق المسيحيين وغيرها تؤمّنها دولة القانون، فالمسؤول المسلم الكفوء والنزيه يحرص على حماية حقوق المسيحيين أكثر من المسيحي نفسه والعكس بالعكس.
في هذا السياق، نجد في تحالف الأقليات، كما في القانون الأرثوذكسي وما يشبههما، «مقبرة المسيحيين وحضارتهم»، ناهيك بالصوت التفضيلي الواحد الذي استنسخ منه واعتُمد في دوائر لا تَناسُبَ فيها.
أما التفاهمات الثنائية، وعلى رغم عدم الالتزام من أفرقائها والتي اعتمدت على تسويات وتقاسم للمناصب بين الأحزاب المعنية، وتوزيع المواقع الإدارية محاصصة بنسبة عدد النواب الذي حصل عليه الحزب نتيجة الانتخابات، فهي من أحدث البدع التي يجري إقناع الناس بضرورتها، وكأننا قبائل لا دستور ولا قانون يحميها.
ad
صورة لبنان ليست بخير، علماً أنه «لم يشهد خلال السنوات العشر الأخيرة ما شهدته دول المنطقة وبعض دول الغرب من حوادث طائفية أو مذهبية»، عندما تزامن الفراغ الدستوري لمدة سنتين ونصف السنة على مستوى الرئاسة مع نشوء «دولة داعش» في الإقليم، وقبلهما التمديد غير الدستوري للمجلس النيابي على الرغم من طعن رئيس الجمهورية تلاه تعطيل نصاب المجلس الدستوري، كذلك تعطيل تشكيل الحكومات وجرّ لبنان إلى صراعات المحاور عبر مشاركة «حزب الله» في الحرب السورية وغيرها.
ومع ذلك، الفرصة لا تزال متاحة للعودة إلى منطق حقوق المسيحيين التي تُستعاد باستعادة قوّة الدولة وسيادتها وتحييد لبنان، باستعادة ثقة المجتمع الدولي والناس بمنظومة الحكم، بتطبيق الدستور وإجراء الاستحقاقات في مواعيدها، بعدالة القاضي واستقلالية القضاء، بتجرّد المسؤول وشفافيته، بحصر امتلاك السلاح بيد الدولة، بتكافؤ الفرص واعتماد آلية موحّدة للتعيينات، لاختيار الرجل المناسب للمكان المناسب، بقانون انتخاب يعتمد النسبية ودوائر كبرى، بعيدٌ كل البعد عن النموذج الأرثوذكسي وعن أحادية الصوت التفضيلي، بالإنماء المتوازن وبمعدل نمو اقتصادي معقول، بالدبلوماسية المتوازنة، بالحرية وإبقاء لبنان ملاذاً للمضطهدين، بالحوار والروح السمحة، بالتزام «وثيقة الأخوّة الإنسانية»، بالحرص على حقوق المسلمين قبل كل شيء وحقوق اللبنانيين، باستكمال تطبيق الدستور. وأخيراً وليس آخراً، بدولة المواطنة.