مقالات وأراء

ثمة ما يتغير

2021 أيار 18
مقالات وأراء

#الثائر

- " وائل أبو فاعور "

تجافيني الموضوعية إزاء فلسطين فالانتماء بعامة عائق أمام النزاهة الفكرية فكيف إزاء قضية عادلة تنتمي إلى عالم الأخلاق قبل عالم السياسة.

طالما لهثت إسرائيل ودعاتها خلف وهم الجغرافيا والهوية، وهمٌ وثّقه الدكتور فواز طرابلسي في كتابه (سايكس - بيكو - بلفور، ما وراء الخرائط). نابليون بونابرت في العام 1798 كان أول الواعدين بالوطن القومي اليهودي، قاد حملته على مصر وقاد معها دعوته ليهود آسيا وأفريقيا لإعادة تأسيس الدولة اليهودية في فلسطين ودعا إلى مؤتمر دولي في باريس للاتفاق على حل سياسي للمسألة اليهودية طمعاً بانضمام اليهود إلى جهود السيطرة الفرنسية على أوروبا وطمعاً بتمويلٍ من قادة اليهود لحملته العسكرية. دعاة الوطن اليهودي، وفي مقدمتهم رئيس الجالية اليهودية في لندن وسمسار البورصة الثري موسى مونيفيوري، حاولوا إغراء محمد علي باشا بتطوير الزراعة وطلبوا منه استئجار فلسطين لمدة 50 عاماً، وكانت الصفقة تقضي باستئجار اليهود لمئتي قرية فلسطينية، مقابل عشرين بالمئة من عائداتها للباشا المصري الذي لم يكن لحسن الحظ يملك صلاحية القرار، فذهب حكمه وذهبت معه الصفقة .

مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل فاوض وزير المستعمرات البريطاني جوزف تشامبرلين في العام 1903 على مساحات في كينيا الأفريقية كملجأ لليهود قبل أن تسقط ما عرفت آنذاك بخطة أوغندا ليعود هرتزل ويعرض توطين اليهود في الأردن. الدعاة ذاتهم كانوا قد عرضوا على السلطان عبد الحميد الثاني في العام 1876 شراء فلسطين بمليوني فرنك لسداد ديون السلطنة، فرفض ذلك وأصدر مذكرة الآراضي العثمانية لمنع الأمر ، وهناك من يقول أنه نصحهم ببلاد الرافدين بدلاً عن فلسطين، فعادوا وعرضوا شراء جزيرة قبرص ومبادلتها بفلسطين في العام 1899 ، ثم فكروا بشراء أراض في محيط بيروت ومقايضتها بأرض في فلسطين. هرتزل نفسه طلب من روسيا زمن القياصرة إنشاء مستعمرات لليهود في فلسطين، ثم عاد وفاوض الخلافة العثمانية على استئجار سنجق عكا لمدة 99 عاماً إضافة إلى مفاوضته البرتغال وبلجيكا وإيطاليا على مستعمرات يهودية في الموزمبيق والكونغو وليبيا، وكلها مشاريع فشلت إلى أن تحققت للمؤسسة الصهيونية الجغرافيا بوعد بلفور، وعادت بعدها لتلهث خلف الهوية.

جوهر الفكرة الصهيونية هو الحق المطلق في الوجود، وإنكار وجود الآخرين وإنكار هويتهم أو تدميرها.

تفوّقت إسرائيل في كل المعارك ؛ الجغرافيا، والاقتصاد، والعلم ، والتكنولوجيا، والسلاح ، والعلاقات الدولية، وما هُزمت إلّا في معركة واحدة، هي معركة الهوية، وهذه هي المعركة الحقيقية الباقية.

الخلاصات مما يجري في فلسطين كثيرة: بنيامين نتانياهو يهرب من سجنه الى دم الفلسطينيين، حماس تستحوذ على مشاعر الفلسطينيين بمعادلتها الجديدة، السلطة الفلسطينية واقعة بين نارين ، قلبها على جراح شعبها وعينها على الحسابات الواقعية، ولا تملك إلّا أن تصرخ في المحافل العربية والدولية دون مجيب . معادلة جديدة ترتسم داخل حدود فلسطين التاريخية، إيران مغتبطة، مهللة ،ونائية في فنادق فيينا. ولا بأس ببعض الاستعراضات، ما بعد مواجهات الشيخ جراح والمسجد الأقصى، وغزة والداخل الفلسطيني ليس كما قبله. كلها استناجات صالحة لكن الحقيقة الأهم أن ما يجري منذ أكثر من سبعين عاماً هو صراع هويات قبل أي شيء آخر ، وسنوات الاحتلال التي طحنت أعمار وآمال الفلسطينيين لم تمسّ هويتهم، وكل جيل فلسطيني جديد لا يقل تحفزاً عمن سبقه لأجل قضيته، وكل جيل إسرائيلي جديد يقل استعداداً عمن سبقه في الدفاع عن دولته.

لا أوافق بعض الممانعين في الخلاصات المتعجلة، وهم يسوّقونها لأهداف سياسية لا تتعلق بفلسطين وقضيتها ، بل بصراعات المنطقة ومكائدها، لكن الثابت أن وهم الأسرلة (والتعبير للمفكر عزمي بشارة) قد سقط سقوطاً مفجعاً للمؤسسة الصهيونية التاريخية، لكنه ربما يكون سقوطاً مفرحاً لدعاة اليمين الصهيوني والديني ، الذي يتسيّد الساحة الإسرائيلية اليوم، ومعه سقطت فكرة الاندماج الكاذب، الدوني، والموازي لإنكار الذات واسقاط الهوية ، مقابل فتات الانتماء إلى الدولة. ولم يعد يستطيع منصور عباس أو من يُشبهه، سواء تدثر بعباءة الإسلام السياسي أو قبّعة الليبرالية أو اليسار، لم يعد يستطيع أن يرقص جذلاً بلقب صانع الرؤساء، بعيدا عن هوية شعبه ، وأن يبدأ من حيث انتهى الحزب الشيوعي الإسرائيلي أو حزب العمل الإسرائيلي (صاحب فكرة الاستيطان والعزل) في كتم الهوية لمصلحة منطق مَطلبي سطحي، مهزوم ومتعامٍ يرفع الحقوق الفردية ويُقصي الحقوق الجماعية لابناء الداخل المحتل ، وهو ما أرادت تاريخياً المؤسسة الصهيونية أن تسجن الفلسطينيين فيه، عبر تكرار مقولتها التاريخية، في أعلى درجات لطفها ونفاقها: لكم حقوق في هذه البلاد، وليس لكم حقوق عليها .

صراع الهوية هذا ، هو الذي جعل 20 بالمئة من الناخبين الإسرائيليين "عرباً فلسطينيين" إلّا قلة ممن ساروا في ركب الاحتلال، وصراع الهوية هذا لن يحسم قبل اجيال ، وصراع الهوية هذا يحتاج أن يعود فلسطينيو الداخل خطوة إلى ميدان النضال السلمي، الحقوقي والسياسي، على قواعد وطنية وقومية واضحة، لأنهم إضافة إلى نضال الضفة والقدس وغزة، هم المعطى الجديد، النوعي والمغير في هذا الصراع، الذي تنبّه له العالم والعرب متاخرين، بعكس المؤسسة الصهيونية، رغم معاناتهم ونضالاتهم المعلنة والمكبوتة، وقلة الذين يعرفون مثلاً أن معدلات رفض الخدمة الإجبارية في جيش الاحتلال الإسرائيلي قد ارتفعت إلى مستويات قياسية، وعلى خلفية قومية بين ابناء الداخل المحتل، لا سيما دروز فلسطين، الذين عاشوا أعلى درجات الخبث الصهيوني، في تجربة الأسرلة، لكنهم اليوم يمثلون أبهى نهايتها البائسة.

قلة أدركت قيمة عرب الداخل المحتل في مجرى الصراع التاريخي، وكان في مقدمتهم الرئيس الفلسطيني الرمز ياسر عرفات، الذي أذكر أنه أرسل مندوبه في الأردن ، القيادي الفلسطيني اسعد عبد الرحمن، إلى وليد جنبلاط في العام 2000 ليقول له: يتمنى عليك ابو عمار أن لا تقسو كثيراً على بعض دروز فلسطين، حتى الذين لا يزالون يرضخون للتجنيد الالزامي، ففي النهاية هولاء هم مستقبل الصراع .

ليس في تجارب كل العرب ما يعين على اسداء النصح للفلسطينيين، لكن لا يجب أن يؤخذ فلسطينيو الداخل المحتل بعزيمتهم إلى أي مواجهة أمنية أو عسكرية مفتوحة مع الاحتلال ، الذي سيصعّد حملته عليهم تنكيلا وطرداً وسجناً وتجريداً من "الجنسية" . ويحب أن لا تُعطى المؤسسة الصهيونبة الذريعة، التي طالما انتظرتها، لأجل التخلص منهم وترحيلهم سياسياً وجسدياً، استكمالاً لخطوات تشريعية، كانت قد بدأت حتى قبل إعلان إسرائيل دولة قومية لليهود.

استمدت دولة الاحتلال الإسرائيلي وجودها من المحرقة والمصالح الاستعمارية، لكن المحرقة الفلسطينية المستمرّة لا تزال تمنع عنها شرعيتها الأخلاقية. وكلما ازدادت إسرائيل قوة سياسيًا وعسكريًا، كلما زادت القضية الفلسطينية قوة أخلاقيًا، رغم أننا لسنا في عالم يقوم على الفضيلة بل على المصالح والقوة.

فجر السبت الفائت، لملم علاء أبو حطب أشلاء أطفاله الأربعة وزوجته بعد غارة إسرائيلية على منزله في مخيم الشاطئ قرب غزة، وشكر الله لأنه ترك له طفله الرضيع ابن السبعة أشهر حياً.

علاء ابو حطب يدفن أولاده ويدفن بجانبهم حلم إسرائيل بكسر هوية الشعب الفلسطيني، ولو عاش مؤسس ورئيس المؤتمر الصهيوني العالمي ناحوم غولدمان إلى يومنا هذا، لأدرك صدق كابوسه الذي تنبأ به، عندما قال: إن دولة إسرائيل سوف تختفي من الوجود، إذا ظلت تمارس الإرهاب اليومي، ولا تعترف بوجود دولة فلسطينية.

عندما سُئلت رئيسة حزب العمل ورئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير عن أسوأ وأفضل يوم في حياتها قالت: "أسوأ يوم كان عندما تم إحراق المسجد الأقصى، لأنني خشيت من ردة فعل عربية وإسلامية، وأسعد يوم في حياتي هو اليوم التالي لأنني رأيت العرب والمسلمين لم يحركوا ساكناً".

ثمة ما يتغير.

المصدر: الأنباء تنشر بالتزامن في جريدة "النهار".

اخترنا لكم
باسيل: نحن مع وقف النار ولسنا حلفاء حزب الله في بناء الدولة لكننا معه في مواجهة إسرائيل
المزيد
ذكرى الاستقلالِ وبورصةُ القرارِ 1701!
المزيد
جنبلاط: الوضع سيستمر بالتدهور بسبب الموقف الغربي.. وإيران من يتولّى المسؤولية في الحزب
المزيد
المرتضى: الاساءات الى طائفة الموحدين الدروز مستهجنة تخدم العدو ومرتكبها حسابه عسير
المزيد
اخر الاخبار
سليم: لبنان يتمسك ببقاء اليونيفيل والتعاون مع الجيش في تنفيذ الـ1701
المزيد
بعد حالة الذعر في المدارس جراء القصف الاسرائيلي للضاحية.. هذا ما قاله الحلبي
المزيد
سيارة "مشبوهة" في راشيا!
المزيد
السفارة الأوكرانية: التهديدات الصاروخية ضد أوكرانيا مستمرة
المزيد
قرّاء الثائر يتصفّحون الآن
كتل هوائية حارة مصدرها مصر.. وارتفاع ملحوظ بدرجات الحرارة!
المزيد
ليست "بروفا".. انتخابات 6 و8 أيار محطة فاصلة في الاستحقاق الانتخابي.. كيف يتوزّع الناخبون؟
المزيد
الراعي متوجها للمسلمين: ليس في السلام غالبون ومغلوبون بل إخوة يسيرون من الصراع الى الوحدة
المزيد
الامطار تنحسر غدا والطقس يتحسن تدريجيا
المزيد
« المزيد
الصحافة الخضراء
علماء المناخ يحذرون من أن انبعاثات الوقود الأحفوري ستبلغ مستوى مرتفعا جديدا
مؤشرات علمية.. 2024 العام الأشد حرارة في التاريخ
روسيا.. ابتكار مواد جديدة تحارب جفاف التربة
الأمم المتحدة: نقص التمويل يعيق جهود التكيف مع تغير المناخ
روسيا.. ابتكار خبز خاص لمرضى السكري بمكونات بيولوجية نشطة
COP29.. رئيس دولة الإمارات يؤكد أهمية تسريع العمل المناخي