#الثائر
- " رامي الريس " - النهار
في لحظات الاحتدام الوطني والخواء السياسي التي يمّر بها لبنان في ظروف قاسية وغير مسبوقة، تتزايد المطالبة من قبل مجموعات سياسيّة أو فكريّة بتطبيق الفدراليّة كنظام للحكم كفيل بإخراج لبنان من أزماته المتلاحقة التي تتوالد بصورة يوميّة وتنذر بإقتراب أجل "الارتطام الكبير" وهو مصطلح جديد دخل على الأدبيّات السياسيّة والإعلاميّة اللبنانيّة عقب الانهيارات المتتالية التي تشهدها الساحة المحليّة على المستويات السياسيّة والإجتماعيّة والإقتصاديّة والمعيشيّة. ثمّة إشكاليّات علميّة ونظريّة وتطبيقيّة عديدة تتصل بهذا الطرح الذي لا يتلاءم مع طبيعة تكوين المجتمع اللبناني الغارق في الطائفيّة والمذهبيّة.
في البداية، لا بد من الاعتراف بحق أي مجموعة سياسيّة أو حزبيّة أو فكريّة أو أكاديميّة أن تطرح فكرة تطبيق الفدراليّة في لبنان، فإذا كان ثمة إجماع (يتعرّض لإهتزازاتٍ خطيرة في المرحلة الراهنة) بأن في لبنان هامش واسع للحريات السياسيّة والإعلاميّة وحرية المعتقد والتفكير وحرية التعبير عن الرأي، فليس من المفيد إطلاق إتهامات التخوين بحق مطلقي هذا الطرح حتى ولو رآه البعض متطرفاً أو مستحيلاً أو جنونياً. وإذا كان رفض منطق التخوين والتسطيح والتسخيف يفترض أن ينطبق على أدبيّات الحياة الوطنيّة والسياسيّة، فهذه الحالة لا تخرج عن هذا الإطار، والمسؤوليّة الأدبيّة والأخلاقيّة تحتّم التعاطي معها على هذا الأساس.
لا شك أن ثمة إشكاليّات تاريخيّة تتصل بهذا الطرح الذي قد يعتبر البعض أن إعادة إحياءه ترتبط بحقبة سياسيّة معيّنة كانت فيها الحرب الأهليّة في أوج إشتعالها وضراوتها، وكان لبنان يرزح تحت الاحتلال الإسرائيلي فطرحت من قبل البعض كمخرج معقول، من وجهة نظرها، للإقلاع عن صيغة العيش المشترك، والذهاب نحو ولايات أو دويلات مستقلة ترسم كل منها سياساتها وتحالفاتها ودورها في المنطقة. ويستتبع ذلك، عن قصد أو غير قصد، أن يكون هذا الطرح محصوراً بالجانب المسيحي دون سواه بالاستناد إلى تلك الحقبة وطروحاتها.
إن هذا الربط سواءً أكان منطقيّاً أم ليس منطقيّاً، وسواءً أكان مطلقوه اليوم يستندون إلى تلك التجربة أم لا؛ إلا أن يترك إنطباعاً لدى شرائح واسعة من اللبنانيين بأن خلفيّاته ليس منعزلة عن تلك الاعتبارت، وهذا بحد ذاته كفيل بالرفض القاطع للمقترحات برمتها.
هذا في الخلفيّات الظرفيّة والشكليّة التي تولد بحد ذاتها عثرات كبيرة أمام أي طرح من هذا النوع. ولكن، إذا وُضعت هذه الاعتبارات جانباً، فإن أي نقاش فكري وسياسي عميق يستهدف إعادة تكوين الصيغة اللبنانيّة وفق قواعد جديدة هو نقاش مستحق طالما أن من يطرحه يحترم القوانين ولا يرمي للإنقلاب على الصيغة الراهنة (بكل سيئاتها) من خارج المؤسسات والدستور والأنظمة المعمول بها.
يُبنى النظام الفدرالي على بضعة قواعد أساسيّة، أبرزها: وحدة الأرض والدولة التي تكون مقسمة إلى ولايات أو دويلات تملك إستقلالاً تاماً تقريباً في إدارة شؤونها المحليّة، على أن تحافظ الحكومة الفدراليّة على صلاحيّة إحتكار السياسة الخارجيّة والدفاعيّة. للولايات الحق في جباية الضرائب وإقامة المشاريع التنمويّة على أراضيها وحصر التنسيق مع السلطات الفدراليّة بالمشاريع العابرة للولايات.
على عكس ما قد يظن البعض، فإن الفدراليّة تتطلب دولة مركزيّة قويّة لكي تتمكن من إحتكار وظيفتي السياسة الخارجيّة والدفاع. الدولة في لبنان، للتذكير هي الحلقة الأضعف، والانقسام اللبناني، للتذكير أيضاً، يتمحور في أحد أسبابه الجوهريّة على الخلاف العميق بين مكونات المجتمع السياسي اللبناني حيال السياستين الخارجيّة والدفاعيّة. فكيف سننتقل بالبلاد إلى نظام فدرالي لا تملك فيه الحكومة الفدراليّة صلاحيّة الدفاع عن أراضيها أو صياغة علاقاتها الخارجيّة مع المحيط والعالم؟
ثمة إشكاليّات أخرى لا تقل تعقيداً في الطرح الفدرالي، إذ نظراً لطبيعة تكوين المجتمع اللبناني القائم على الطائفيّة والمذهبيّة، من سيضمن ألا يكون التقسيم المرتقب للولايات المرتجاة غير قائم على إعتبارات طائفيّة ومذهبيّة؟ هل هناك من مناطق لبنانيّة "صافية" طائفيّاً، إذا صح التعبير؟ ماذا سيكون مصير "الأقليّات" الطائفيّة التي ستعيش في ولايةٍ أكثريتها من طائفة أخرى؟ هل يمكن ضمان عدم نزوحها أو هجرتها نحو كانتونات تحظى فيها طائفتها بأكثريّة مطلقة حيث قد تشعر بمزيد من "الطمأنينة والأمان"؟
إذن، السيناريو الافتراضي سيكون تهجير متبادل للسكان من الدويلات اللبنانيّة المختلطة (أي كلها تقريباً) وقيام دويلات طائفيّة "صافية". وعندئذٍ، وبسبب ضعف الدولة الفدراليّة كما سبقت الإشارة، سترسم كل دويلة سياستها الخارجيّة والدفاعيّة (التي على الأرجح ستكون على طرفي نقيض مع سياسة الدويلات الأخرى). تالياً، ستتحوّل كل دويلة إلى "محميّة" تابعة لطرف إقليمي وستنشب النزاعات الدمويّة والحروب والاقتتال.
يُضاف إلى هذا الإعتبار، إعتبارات أخرى مهمة بدورها. ثمة تفاوت إقتصادي وإجتماعي وطبقي بين المناطق اللبنانيّة، وهناك مناطق أكثر "ثراء" من مناطق أخرى بسبب ما تملكه من مرافق ومؤسسات سياحيّة وصناعيّة وتجاريّة وإقتصاديّة. هذا الأمر لن يكون متوفراً في مناطق أخرى، وذلك سيكون أيضاً من الأسباب الجوهريّة لإندلاع الخلافات بين الدويلات المستجدة.
إذن، المشهد سيكون كالتالي: دولة مركزيّة ضعيفة، دويلات طائفيّة ومذهبيّة متفاوتة الاجندات الخارجيّة والدفاعيّة، ومتفاوتة القدرات الإقتصاديّة والاجتماعيّة، وساحات جديدة ومتنوعة جاهزة للإختراق من اللاعبين الاقليميين لتصفية حساباتهم. الدويلات القويّة والضعيفة، على حد سواء، سوف تستند إلى تلك الأطراف الإقليميّة للاستقواء على "جارتها" والانقضاض عليها فور توفر الظروف لذلك.
في سياق الدفاع عن طروحاتهم، يبرّر مؤيدو الفدراليّة اللبنانيّة أفكارهم بأن ثمة 27 دولة حول العالم تطبّق هذا النظام، ومعظمها دول تتميّز مجتمعاتها بالتعدديّة والتنوع، ومن الأمثلة سويسرا وبلجيكا والولايات المتحدة. هذا صحيح، ولكن الفارق الجوهري أن أبناء تلك المجتعمات لا يتماهون مع هوياتهم الطائفيّة والمذهبيّة "على الطريقة اللبنانيّة"؛ ولكن، الأهم من ذلك أن جيران أميركا هما كندا والمكسيك، وجيران بلجيكا هم هولندا وألمانيا وسويسرا وفرنسا، وجيران سويسرا هم بلجيكا والمجر وإيطاليا وفرنسا وألمانيا. جيران لبنان هما الاحتلال الاسرائيلي وسوريا...
ثمة ملاحظة أخيرة ترتبط بتوقيت إنتاج أية صيغة جديدة التي تكون بطبيعة الحال وليدة اللحظة السياسيّة محليّاً وإقليميّاً ودوليّاً، مثلما كان إتفاق الطائف في أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات نتاج تلك الحقبة التي توفرات إمكانيّة النفاذ من خلالها عبر تفاهم أميركي- عربي لوقف المدفع وإنهاء الحرب وإطلاق مرحلة السلم؛ كذلك، سيكون إستيلاد أي نظام، أكان فدراليّاً أم غير فدرالي، وليد موازين القوى الراهنة إقليميّاً المرتكزة إلى صراع كبير (لا يخلو من الاعتبارات المذهبيّة بالمناسبة مع ما سيعنيه ذلك من إنعكاس على المشهد اللبناني) وإستقطاب حاد بين المحاور المتقابلة. إذا كان لبنان الموّحد، رغم هشاشة وحدته، غير قادر على إستيعاب مفاعيل تلك الصراعات الكبرى على أرضه، فكيف سيتمكن من ذلك وهو مشرذم ومقسم إلى دويلات طائفيّة ومذهبيّة.
ختاماً، إلى كل المنظرين للفدراليّة اللبنانيّة، بكل محبة... إنها وصفة لمزيد من الفوضى والتشرذم والانقسام!