#الثائر
- الدكتور مروان القطب
كثُر الحديث في الأونة الاخيرة، عن صلاحية حكومة تصريف الأعمال في إقرار مشروع الموازنة العامة بصيغته النهائية. فهل تستطيع الحكومة أن تقوم بذلك؟ وهل الظروف الاستثنائية تخولها إجراء هذا التصرف؟ وهل مواجهة الظروفةالاستثنائية تستدعي تعديل أنظمة إدارية تشكّل جزءاً من سياسة الدولة؟
إن نشاط الحكومة في ظل تصريف الأعمال محكوم بالمادة (64) من الدستور التي تنص في البند (2) منها على أن «لا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة، ولا بعد استقالتها، أو اعتبارها مستقيلة، إلّا بالمعنى الضيق لتصريف الاعمال». أي يقتضي التقيد بالمفهوم الضيق لتصريف الأعمال.
وفي هذا الاطار ميز الاجتهاد الاداري اللبناني، بين نوعين من الأعمال، أعمال عادية تستطيع الحكومة القيام بها، وأعمال تصرفية لا تستطيع القيام بها.
أما الأعمال العادية والتي يمكن للحكومة القيام بها، فهي الأعمال اليومية التي يعود إلى السلطات الإداريّة إتمامها، ويتعلّق إجراؤها في الغالب على موافقة هذه السلطات كتعيين ونقل الموظفين، وتصريف الأعمال الفردية التي لا يمارس عليها الوزير سوى إشراف محدود، أي الأعمال العادية الروتينية، التي تقتضيها استمرارية تشغيل المرفق العام باضطراد وانتظام.
واعتبر مجلس شورى الدولة أن الأعمال العادية هي “القيام بالأعمال التي لا ترتبط بسياسة الدولة العليا، والتي ليس من شأنها تقييد حرية الحكومة اللاحقة، في انتهاج السياسة التي تراها أفضل…” (مجلس شورى الدولة، قرار رقم 700 تاريخ 15/5/1995، منصور حنا هنود/الدولة).
أما الأعمال التصرفية والتي لا يجوز للحكومة القيام بها "فهي الأعمال التي ترمي الى إحداث أعباء مالية جديدة، أو التصرف باعتمادات هامة، أو إدخال تعديل جوهري على سير المصالح العامة، وفي أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية".
وهذا يعني أن الأعمال التصرفية هي الأعمال التي تتضمن تعديلاً جوهرياً على سير المصالح العامة، وفي أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية، وهي التي ترتبط بسياسة الدولة العليا، وهي الأعمال التي من شأنها تقييد حرية الحكومة اللاحقة في انتهاج السياسة التي تراها أفضل.
ان المواد التي وردت في مشروع الموازنة العامة للعام ٢٠٢١ فيها مساس بنظام الوظيفة العامة، بمفهومه الشامل والمرتبط بكل العاملين في القطاع العام، من ملاكات إدارية وتعليمية وجامعية وقضائية وعسكرية. وفيها تعديل جوهري للسياسات المعتمدة تاريخياً من حيث أنظمة الوظيفة العامة والتقاعد، وتُلزم الحكومات اللاحقة بسياسات قد لا تكون هي الأفضل.
إذاً هي أعمال تصرفية وليست عادية، وتخالف المعنى الضيق لتصريف الاعمال، وتُشكّل مخالفة للدستور اللبناني، لا سيما المادة ٦٤ منه.
بعض الأراء التي نُشرت في الإعلام ذهبت إلى مشروعية إقرار الموازنة العامة من قبل حكومة تصريف الاعمال، بالاستناد إلى نظرية الظروف الاستثنائية، وإلى اجتهادات لمجلس شورى الدولة، تُقرُّ القيام بالأعمال التصرفيّة في الظروف الإستثنائيّة حصرًا، على اعتبار ان "الأوضاع الإستثنائية التي تتعلّق بالنظام العام وأمن الدولة الداخليّ والخارجيّ، تسمح للحكومة المستقيلة، وليس للوزير أو الوزراء منفردين، باتخاذ تدابير ضرورية تخرج عن تصريف الأعمال".
وبالتالي في حال كانت الظروف الاستثنائية تستوجب وجود موازنة نظامية، من أجل إنفاق الاعتمادات لمواجهة هذا الظرف فإن إقرار الموازنة يكون مشروعاً وصحيحاً.
إلّا أن نظرية الظروف الاستثنائية التي أقرّها الاجتهاد الفرنسي، تعتبر أن الضرورة تُقدّر بقدرها، وبالمقدار اللازم لدفع هذه الظروف، وأكّدت ضرورة تناسب الإجراء المُتّخذ مع الظرف الاستثنائي الذي تواجهه الإدارة. وقضت في أحد قراراتها الشهيرة الصادرة في العام ١٩٥٨ بأنه " على الرغم من اعتبار الحرب، والآثار الناشئة عنها في الهند الصينية، تُمثّل ظرفاً استثنائياً إلّا أن هذه الصعوبات، ليس من شأنها تبرير قيام مندوب فرنسا في هذه البلاد (المستعمرة وقتئذ) بإنشاء نظام خاص للضمان الاجتماعي للأُسر... " C.E 13 janvier 1958 , chambre syndicate du commerce. REC. P63
وهذا يدل على أنه وإن كان من الضروري وجود موازنة عامة، من أجل نظامية الإنفاق المالي، في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر فيها البلاد، ما يجعل إقرار مشروع الموازنة العامة ممكناً في ظل حكومة تصريف اعمال، شرط أن لا تتجاوز الحكومة مقتضيات الظروف الاستثنائية.
إلّا أن تعديل سياسات الدولة الإدارية، يخرج عن نطاق هذه الظروف، ويدخل في نطاق الأعمال التصرفية التي لا يجوز القيام بها من قبل حكومة تصريف أعمال.
كما انه لا يجوز استخدام الحاجة إلى وجود موازنة عامة من أجل تمرير نصوص قانونية مجحفة بحق شرائح كبيرة من المواطنين. ولا يجوز تضمين الموازنة العامة بنوداً لا علاقة لها بالتنفيذ المباشر لها، وفقاً لمفهوم "فرسان الموازنة" الذي يعني عدم جواز إدراج أي مادة قانونية في قانون الموازنة، إلّا إذا كانت على علاقة مباشرة بتنفيذها. حيث اعتبرت قرارات المجلس الدستوري اللبناني، التي لها حجية مطلقة وملزمة للمشرّع وللإدارة، أن هذه مواد غير دستورية وقابلة للابطال أمامه.
(قرار المجلس الدستوري رقم 2 تاريخ: 14/5/2018)
واخيرا فان تعديل أنظمة الوظيفة العامة والتقاعد، لا يستدعيه دفع الظروف الاستثنائية، بل إن إقرار هذه التعديلات يشكل خروجاً على قواعد المشروعية الاستثنائية، وإن كانت هذه المشروعية تستدعي إقرار مشروع الموازنة من أجل انتظام المالية العامة، لكنه لا يستدعي إقرار تعديلات جوهرية لأنظمة الإدارة التي تحتاج إلى التروي، وحسن الدراسة والبحث عن الخيارات التي تحقق الصالح العام.