#الثائر
اتجهت أنظار العالم صباح الأربعاء الماضي إلى العاصمة الأمريكية "واشنطن" التي تحولت إلى ثكنة عسكرية، معزولة عن باقي الولايات الأمريكية، حيث انتشرت الأكمنة والدشم الخرسانية، ورفع درجة الاستعداد القصوى، في مشهد غير مألوف وغير مسبوق، استعداداً لمراسم حفل تنصيب الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية "جو بايدن"، بحضور الرؤساء السابقين، عدا الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب"، الذي رفض نتيجة الانتخابات، متهما الرئيس الديمقراطي الفائز "بايدن" و حزبه الديمقراطي بتزويرها. وما تبع ذلك من اقتحام أنصار ترامب لمبنى "الكونجرس" أحد أهم قلاع مؤسسة السياسة الأمريكية وأقدسها، فكان مشهد التنصيب المحاصر بالتحصينات الأمنية والإجراءات الاحترازية لـ"كورونا".
وقد تباري المحللون وخبراء السياسة ونشطاؤها وكتّابها حول العالم، في تحليل ودراسة ذلك المشهد، الذي أحدث زلزالا خلف تصدعات غير مسبوقة في بنية الديمقراطية الأمريكية المزعومة، وصورتها الذهنية التي رسختها عبر قرون. فانطلقت تغريدات العالم الافتراضي، بين "السخرية والشماتة"، خاصة في منطقتنا العربية، حيث أُفردت المساحات الإعلامية والتغريدات، واصفين ما يحدث بـ"الربيع الأمريكي".
وبعيداً عن هذه التحليلات والتدوينات والتغريدات، لابد أن نعي ونعلم، في حال اختلفنا أو اتفقنا، أن هناك مؤسسات سياسية راسخة البنيان، تُدير السياسة الأمريكية داخلياً وخارجياً. وهذا ما يجعلني أؤكّد أن تصعيد "ترامب" ودعمه حتي اعتلائه عرش السياسة الأمريكية، ووصوله لـ"البيت الأبيض"، لم يكن محض صدفة أو غفلة لهذه المؤسسات، لكنه كان أمراً مدروساً بعناية فائقة، فالسياسة مراحل ولكل مرحلة رجالها كما يقولون.
نعم فالمرحلة كانت تحتاج إلى ما يشبه "زلزالاً سياسياً" يطلُّ من خلاله الوجه الحقيقي القذر للسياسة الأمريكية، المختبيء خلف ستار المباديء والمثل العليا، زلزالاً يخلّف حالة من الفوضي والسيولة في كثير من الملفات، التي باتت ضاغطة علي الساسة الأمريكيين، سواء علي المستوى الداخلي الذي يشهد نوعا من الركود الاقتصادي وتزايد معدلات البطالة، أو على صعيد السياسة الخارجية، المثقلة بالعديد من الأزمات. فمخطط "تقسيم الشرق الأوسط " بات مهدداً بالفشل بعد أن أوشكوا على تقسيم "تورتته"، رغم ما خلّفه من كوارث ودمار في المنطقة. الأمر الذي يهدد "حلم إسرائيل الكبري"، ذلك الحلم الذي يراود ساكني البيت الأبيض علي مر العصور إرضاءً لجماعات الضغط الصهيونية، التي تحكم وتتحكم في مسار السياسة الأمريكية، ناهيك عن الرعب الذي يمثله تصاعد نفوذ "المارد الصيني" ، الذي بات يهدد الهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة حول العالم. فهناك تحالفات وتجمعات جديدة بدأت تتشكل خارج نفوذ السيطرة الأمريكية، فكان الاختيار الأمثل هو "دونالد ترامب" ، تلك الشخصية البهلوانية المتهورة, التي لا تحتكم للمنطق في الفكر والتصرف، وتفتقد لأدني حدود السياسة الرصينة، ليتم التنصل منه بعد إنجاز "المهمة القذرة". والذي يدعم هذا الاعتقاد، هو أن نفس الآلة الإعلامية، ونفس وسائل التواصل الاجتماعي، التي مهّدت الطريق لـ"ترامب"، هي هي نفس الوسائل والأدوات التي صدرت لها التعليمات، بحظره وحجب ظهوره، حتي قبل مغادرته "البيت الأبيض".
وهنا نأتي لرسائل «بايدن» في حفل «التنصيب»
وكان حتما على مؤسسة السياسة الأمريكية أن تدقق في الاختيار هذه المرة، في من سيسكن البيت الأبيض عقب "ترامب" ، لإعلان انتهاء هذه الحقبة المشوّهة من تاريخ أمريكا، واستعادة المباديء والمثل العليا، التي قامت عليها ومن أجلها الأمة الأمريكية. فكان اختيار هذا الكاثوليكي العتيق والمحنك سياسياً، فهو رجل يجيد الرقص على حبال السياسة، ويستطيع السير في دروبها و دهاليزها، بحكم الخبرة والأقدمية والتجربة. فقد دخل متاهات السياسة في الثلاثين من عمره كأصغر سيناتور في أمريكا، الرجل الذي أقرّ خبراء السياسة بحنكته ومهارته, فهو رجل لا يعترف بمعنى الهزيمة، ويجيد كسب الرهانات السياسية, وهذا ما وضح جليا في "خطبة التنصيب"، حيث استطاع مخاطبة الجبهة الداخلية المنقسمة علي نفسها، والتي تعج بالصراعات والانقسامات والعنصرية، ليؤكد لهم بمهارة السياسي المحنك، أنه سيكون رئيسا للجميع، وأنه سيعمل علي إصلاح ما أفسده الدهر.
كما أعلن الرجل أنه سيعمل على استعادة مباديء الأمة الأمريكية التي أهدرت في عهد سلفه، ومحاربة العنصرية المقيتة التي تهدد المجتمع الأمريكي، لافتاً إلى أن على رأس أولوياته دعم المنظومة الصحية، ووضع خطة استراتيجية للحد من آثار جائحة "كورونا" التي حصدت أرواح الملايين.
وعلي صعيد السياسة الخارجية أكد أنه سيعمل علي بناء التحالفات، والعودة للاتفاقيات والمعاهدات التي ألغاها سلفه. وما لفت نظري في "خطاب التنصيب" ، هو ذاك المصطلح الذي أطلقه حينما قال "سنحارب الإرهاب السياسي"، فهو هنا يقصد "إرهاب الأنظمة" وليس "إرهاب الجماعات المتطرفة"، الأمر الذي يمهد لعودة السياسة الأمركية التي تدعم الجماعات الدينية المتطرفة، واللعب علي وتر "حقوق الإنسان " ، الذي يعطي الذريعة للسياسة الأمريكية للتدخل في شؤون الدول، وزعزعة استقرارها لفرض الهيمنة وتنفيذ المخططات.
للحديث بقية...
خاص «الثائر»
مدير موقع «أحوال مصر» الأستاذ سيد زهيري