#الثائر
- " اكرم كمال سريوي "
لقد عاشت الطائفة الشيعية في لبنان مرحلة طويلة من التهميش والفقر، في ظل التسوية المارونية السنية وتقاسم الحكم بينهما، منذ عهد الأستقلال وحتى الأمس القريب. وعلى قاعدة «رُبّ ضارة نافعة» هاجر قسم كبير من ابنائها، وجنوا الأموال في الخارج، وباتوا يرفدون أهلهم بها، ليشكّلوا رافعة لهم في هذه الظروف المعيشية الصعبة .
نجح حزب الله كحركة مقاومة حققت نصراً على إسرائيل وأجبرتها على الخروج من لبنان، وحصل على دعم وتعاطف كبير من الشارع العربي، ثم حاول الحزب إستثمار النصر في لبنان، وحتى داخل الطائفة الشيعية، فكان لذلك ارتداداته، بحيث أصبح الأنتماء للحزب مدعاة فخر واعتزاز، وانضوى تحت لوائه غالبية الشيعة، لكن محاولة احتكار النصر مذهبياً، أبعدت الكثيرين من الحلفاء بعد أن تم تهميشهم والغاء دورهم، وجعلهم اتباع لا شركاء في النصر، أما الآخرين فتحولوا إلى خصوم وإن لم يُعلن بعضهم هذه الخصومة .
لا يُمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ولن يرضى الشيعة بالعودة إلى الزمن الماضي، وهم اليوم أكثر تكتلاً، وباتوا يصرخون «شيعة شيعة» في مواجهة كل اللبنانيين، ولا يمكن أن يتخلوا عن السلاح الذي جعلهم اللاعب الأقوى الذي يفرض شروطه في اللعبة السياسية .
رغم الحديث عن وقف العد، لكن العدد يفرض نفسه في صناديق الإقتراع، ولن يحصل المسيحيون على أكثر من ثلث عدد نواب البرلمان في أية انتخابات مقبلة، خاصة في ظل الفارق الكبير في الزيادة السكانية، التي تصبُّ في مصلحة المسلمين في لبنان. وهذا ما أدركه جيداً أصحاب المشروع الأرثوذكسي، الذي وحده يمكن أن يحفظ امتيازات المسيحيين ويُعطيهم نصف المقاعد النيابية، المنصوص عليها في الدستور .
لم يكن طرح فكرة المثالثة والمؤتمر التأسيسي من قبيل الصدفة، وسيكون هذا الشعار الشيعي جاهزاً دائماً في مواجهة أية مطالبة مسيحية بنزع سلاح حزب الله، وأُضيف إليه مؤخراً مطلب نائب رئيس الجمهورية، كحق للطائفة الشيعية، مقابل حصول المسيحيين على منصب نائب رئيس المجلس النيابي ونائب رئيس الحكومة .
وحده العماد عون كان قادراً على إقناع جزء من المسيحيين بقبول التسوية، ومقايضة الوصول إلى رئاسة الجمهورية، بالسكوت عن السلاح وإلحاق لبنان بالخيارات الإستراتيجية لحزب الله. وقد اعتقد البعض بدايةً أن هذه التسوية حققت إنجازاً مسيحياً، بوصول الرئيس القوي إلى بعبدا، واستعاد المسيحيون جزءاً من المراكز والوظائف في الدولة، مما أرضى الطموحات الأنية البسيطة لدى البعض .
لاحقاً تكشفت أضرار تلك التسوية، فبعد اتفاق الطائف لم تعد رئاسة الجمهورية التي تقلصت صلاحياتها، فاعلة كما كانت سابقاً، وأصبح ما يُسمى بالديمقراطية التوافقية، مدخلاً لجعل أي شخص من زعماء الطوائف الأقوياء قادراً على تعطيل البلاد، ففشل مشروع إعادة بناء الدولة، وتبخرت مشاريع الإصلاح الموعود، وتراجعت الطموحات الكبرى إلى حدود القبول بوظيفة هنا ورشوة صغيرة هناك، والدخول في متاهة المحاصصة والصفقات .
بات اللبنانيون اليوم والمسيحيون خاصةً أمام حقيقة الخيارات الإستراتيجية والأمعاء الخاوية .
فبعد الإنتخابات النيابية والتسوية الرئاسية، أحكم حزب الله قبضته على البلاد، واعتبر الغرب أن لبنان أصبح ملحقاً بخيارات الحزب وانغماسه في الصراعات الكبرى، من المواجهة الأمريكية الإيرانية إلى الحرب في اليمن وسوريا وغير ذلك، فقرر استعمال الورقة الإقتصادية كوسيلة للضغط .
فجأة تخلى الجميع عن لبنان، وبغض النظر عن واقعنا الإقتصادي المأزوم، لكن الجميع يعلم أن سعر صرف الدولار ألذي قارب عشرة آلاف ليرة هو سياسي بالدرجة الأولى، ولكن العقوبات المالية تطال جميع اللبنانيين دون استثناء، مما بات يُهدد بموجة هجرة كبيرة في الأيام القادمة .
إذا كانت خيارات السفر والهجرة أمام المسلمين محدودة، فإن المسيحي لن يرضى بوظيفة جندي براتب أقل من مئة دولار، ما دامت أبواب السفر مفتوحة أمامه. ومن لم يترك لبنان أيام الحرب سيسعى جاهداً للمغادرة اليوم. فهل هذه خطة لإفراغ لبنان من المسيحيين، على غرار ما حصل في عدة دول عربية سابقاً ؟ .
لا أنتمي إلى المذهب المسيحي ولا أتكلم من باب التعصب المذهبي، بل كمراقب سياسي. وحده غبطة البطريرك الراعي من بين الزعماء المسيحيين إستشعر الخطر القادم، فرفع الصوت وفي وجه الجميع، والزعماء الموارنة أولاً، داعياً إلى اتباع سياسة الحياد الدولي لإنقاذ لبنان .
لن يتحمل اللبنانيون والمسيحيون خاصة، الجهاد الزراعي وحالة الفقر، ليس لأربعين عاماً، بل ولا لأربع سنوات .
فهذا الشباب الذي بذل كل ما يملك ليتعلم ويتخرج من الجامعات، هو يبحث عن الحياة الكريمة أولاً، قبل خيارات تحرير فلسطين وإلحاق الهزيمة بأمريكا، ليس لأنه غير وطني وعروبي، بل لأن هذا الحمل، نيابة عن العرب وإيران، وحتى عن الفلسطينين أنفسهم الذين يفاوضون الإسرائيلي في فلسطين، بات أكبر من طاقة اللبنانيين والقدرة على الصمود والمغامرة .
إنها الحقيقة التي نأمل أن يُدركها المسؤولون في لبنان، فيسارعوا إلى لم الشمل والتعالي عن الخلافات وتحقيق المآرب. فلترحل هذه الحكومة العاجزة العرجاء، ولتأتي حكومة إنقاذ حقيقي، تُلبّي مطالب الشعب، وتستجيب لنداء غبطة البطريرك الصادق في تحييد لبنان عن لعبة الأمم .
لنجعل لمرة واحدة المصلحة الوطنية فوق أي اعتبار، ولنطبّق اتفاق الطائف بدل السعي للأنقلاب عليه، أو الدخول في متاهة الصراع، ومشاريع الفدرالية أو المثالثة وغيرها. ولنحترم القوانين ونصلح ثغراتها، بدل أن نطعن بها ونطالب بإلغائها، لمصلحة استمرار الفوضى والمحاصصة والإستزلام .