#الثائر
كتبت صحيفة "الأخبار" تقول: شدّت الطبقة المهيمنة أحزمتها، وقررت الرجوع عن "الخطأ". ممنوع المسّ بالقطاع المصرفي، حتى لو كان الثمن إفشال المفاوضات مع صندوق النقد. هذا يعني تحميل مسؤولية الخسائر لكل الناس، بدلاً من الذين قامروا بأموال المودعين. هنا، ليس مهماً كيف يمكن استعادة عافية الاقتصاد. الأولوية لبقاء أصحاب المصارف متربعين على عروشهم حتى لو انهار البلد
شكّلت الخلاصة التي توصّلت إليها لجنة المال إِشارة الانطلاق لحملة مدروسة على الخطة الاقتصادية للحكومة، تتولاها المصارف بدعم من غالبية الكتل السياسية. ترتكز الحملة على إفقاد الخطة الحكومية صدقيّتها، من خلال إظهار خطأ الأرقام التي تضمنتها. في الخطة، حُددت خسائر القطاع المالي بـ 241 ألف مليار ليرة، فيما خلصت اللجنة النيابية لتقصّي الحقائق، برئاسة النائب إبراهيم كنعان، إلى أن هذه الخسائر تقارب 80 ألف مليار ليرة. الفارق الكبير يعود، بحسب كنعان، إلى مقاربة مختلفة وترقّب مغاير للأرقام وليس إلى خطأ في الحسابات. هذا نصف الحكاية، لكن نصفها الثاني أن الطبقة المهيمنة أعادت لملمة نفسها بمهمة وحيدة هي إبعاد القطاع المصرفي عن تحمّل مسؤوليته في تبديد أموال المودعين. بدت الخطة الحكومية، وخاصة في الجزء المتعلق بتوزيع الخسائر، كخطأ تكتيكي من جانب السلطة، كان لا بد من العودة عنه بأي طريقة. فهذه الخطة اقترحت استخدام رساميل المصارف (أي حصص مالكيها) لإطفاء جزء من الخسائر، وتقترح شطب جزء من الدَّين الداخلي الذي تحمل المصارف جزءاً كبيراً منه. وهنا "مربط فرس" المعترضين على الأرقام الحكومية. فاعتماد هذه الأرقام منطلقاً للخروج من الأزمة، يعني تحميل المصارف مسؤولية ما ارتكبته طوال عقود. وهذا الأمر ممنوع في قاموس "حزب المصرف"، العابر للكتل السياسية والطائفية.
الخطوة الأولى على طريق "العودة عن خطيئة المسّ بالذات المصرفية" أتت من اجتماع بعبدا، الذي ضمّ معظم قيادات الطوائف، ثم كانت لجنة المال التي ضمّت ممثلي كل الكتل النيابية واجتماع السرايا الذي أخضع حسان دياب لسلطة من أتى به رئيساً للحكومة، وأعاد المصارف إلى طاولة القرار.
اللجنة لم تدخل بعد في نقاش كيفية تعويض الخسائر، لكنها في تحديدها لهذه الخسائر صعّبت مهمة الوفد اللبناني المفاوض لصندوق النقد. فالصندوق الذي اعتبر أن خطة الحكومة تشكّل نقطة انطلاق لبدء المفاوضات، لن يوافق على تخفيض رقم الخسائر بشكل دراماتيكي، وخاصة أن تقديره لها يفوق تقديرات الحكومة. لم يصدر تقرير لجنة المال بعد، لكن صار معلوماً أن انخفاض الخسائر يعود بالدرجة الأولى إلى إلغاء إعادة هيكلة الدَّين الداخلي (سندات الخزينة بالليرة)، وخفض تقديرات التسليفات المتعثرة من 40 ألف مليار إلى 14 ألف مليار وعدم احتساب القروض المستحقة ما بعد عام 2027 في خانة الخسائر.
الرئيس نبيه بري سبق أن أعلن أنه تم الاتفاق على مخاطبة صندوق النقد بلغة واحدة. التقرير الذي يفترض أن يتسلّمه من رئيس لجنة المال وضع قواعد هذه اللغة. لكن معظم المفاوضين اللبنانيين يرفضون التحدث بلغة تعفي المصارف من مسؤوليتها. قيل إن وزير المالية وافق على مقاربة لجنة المال، لكن مصادر مطلعة تؤكد أنه لا يوافق على أرقامها ويتمسك بخطة الحكومة. الأيام المقبلة ستظهر كيف ستتصرف الحكومة مع الوضع المستجد.
حتى اليوم، لا أحد يعلن رفضه الحصول على برنامج من صندوق النقد الدولي، لكن الحديث عن احتمال فشل الاتفاق يزداد. الموقف المعلن لكل الأطراف أن "لا مصلحة لنا بعدم الاتفاق مع صندوق النقد، لأنه يؤدي إلى وقف أي عملية تمويل محتملة". فموافقة الصندوق على أي خطة إنقاذية ضرورية ليتمكن لبنان من استعادة الثقة الدولية، "لكن المطلوب اتفاق يناسب إمكاناتنا".
من دون إعادة هيكلة للقطاع المصرفي ومن دون تغيير السياسة النقدية، لن يضمن الصندوق تسديد الأموال التي يمكن أن يقدّمها. موقفه هذا مبني على أولوية الحفاظ على المؤسسات الرأسمالية، ومنها المصارف، لكنه لا يهتم بالطريقة، ولا يهتم بمصير ملكيات هذه المصارف. هنا تحديداً يكمن التعارض. أصحاب المصارف متوافقون مع الصندوق في كل ما يؤدي إلى إفقار الناس (التقشف وتحرير سعر الصرف وتحجيم القطاع العام وإلغاء برامج الدعم)، لكنهم يعارضونه بشدة عندما يمس بمنظومة مصالحهم. والمفارقة أن حزب المصارف، في الدولة وخارجها، صار ميالاً إلى رفض الخضوع لبرنامج يضعه صندوق النقد. فالصندوق، وفق الوقائع الحالية، ربما يتبنى الأرقام الحكومية للخسائر وكيفية تغطيتها، مع ما يعنيه ذلك من قوة "جبرية" تفرض على المصارف المشاركة في إطفاء الخسائر. أما موازين القوى الداخلية، فتتيح للمصارف التهرّب من مسؤوليتها، وتحميل الخسائر للطبقات التي دفعت سابقاً ثمن تراكم الثروة بيد القلّة.
فشل الاتفاق مع صندوق النقد سيعني في هذه الحالة السير في برنامج يحمّل المجتمع تكلفة الخسائر، من خلال بيع أملاك الدولة وخصخصتها، بحجة أنها هي المسؤول الأول عن الخسائر. هنا لا مسؤولية تقع على من بدّد أموال المودعين لتمويل الدولة. وحتى لو تحمّلت المصارف المسؤولية، فيكون ذلك طوعياً، وبمبادرة من مصرف لبنان لدعم أي اندماجات محتملة، لا تلغي الملكية الحالية للمصارف.
مقاربة لجنة المال مؤلفة من ثلاثة مكونات يعتبرها كنعان مسؤولة بنسب متفاوتة عن الخسائر.
المسؤول الأول هو الدولة بسياستها المالية، ووعودها بإصلاح لم ينفذ على مدى عقدين من الزمن. بالأخص يشار هنا إلى ملفات: الكهرباء، خدمة الدين، الجمارك وإعادة هيكلة القطاع العام. وانطلاقاً من مسؤوليتها، يفترض أن تتحمل المسؤولية من أملاكها.
المسؤول الثاني هو مصرف لبنان، الذي أفرط في تغطية سياسة مالية غير سليمة وتمويل عجز الموازنات والقطاع العام، في الوقت الذي كان فيه واضحاً أن الدولة ذاهبة إلى الانهيار. لكن مع ذلك، فإن التوجه هو لمكافأته من خلال استمراره في إدارة السياسة النقدية بالطريقة التي أثبتت فشلها، وبتغطية خسائره من خلال إنشاء صندوق يضم أملاك الدولة.
المسؤول الثالث هو المصارف، التي أسرفت أيضاً في تمويل الدولة من أموال المودعين، من دون احترام المعايير العلمية والعالمية في عملية التسليف.
الخط الأحمر في لجنة المال هو المودع. إذ لا يعقل أن يتحمل مسؤولية أخطار لم يرتكبها، فهذه خطوة تؤدي إلى إبعاد أي استثمارات محتملة. هنا، لا يميز دعاة تحييد المودعين عن تحمل الخسائر بين كبار المودعين الذين استفادوا من كل السياسات النقدية، وبين مودع صغير بالكاد كان يحصل على فائدة محدودة.
عضو في لجنة التفاوض مع صندوق النقد يعتبر أن ثمة فارقاً بين التفاوض على الحل والاعتراف بالمشكلة. والاعتراف يسمح هنا ببناء برنامج على أساس الخسائر المحققة. لذلك، فإن الإصرار على تحديد أرقام خسائر تقل عن الواقع سيؤدي إلى تطيير برنامج الصندوق. هذا تحديداً سيكون المطلوب. من راكم الأرباح على مدى 30 عاماً، قرر، عند الخسارة، أن يحمّل المسؤولية للناس، كل الناس، من دون تمييز بين من راكم الثروات على حساب المال العام، ومن سحقته السياسات المالية والنقدية. الخلاصة أن الخيارات تضيق أمام اللبنانيين. لم يعد أمامهم سوى الهجرة أو الجوع، مع توقعات بأن يصل سعر الدولار إلى أرقام "فلكية" في حال إقفال الباب أمام صندوق النقد. سبق أن قال كثر إن الأخطر من اللجوء إلى صندوق النقد هو فشل المفاوضات معه.