مقالات وأراء

مطحنة «المخاضة» بلا طحين

2020 أيار 10
مقالات وأراء المدى

#الثائر

- " اكرم كمال سريوي "

كان أهالي القرية يعتاشون من جنى حقولهم وكرومهم رغم وُعُورتها وضآلة الإنتاج، ولكن التركي المحتل لم يكن ليتركهم بسلام، فلطالما فرض عليهم الضرائب الباهضة وصادر محاصيلهم واقتاد الشباب إلى الحرب والسُخرة .

كان فهيم شاباً قوي البنية والعزيمة والشكيمة، فرفض الذّل والخنوع، وقرر مقاومة المحتل، ولقي دعماً من أهالي القرية والقرى المجاورة، وسرعان ما التفَّ حوله العديد من الرجال واتخذوا من المغاور ملجأً لهم، وساعدتهم طبيعة العرقوب الجبلية، فبدأو مقاومة أرعبت جنود العثمانيين، الذين كان مجرد ذكرهم يكفي لترهيب السكان الآمنين .

ساند الأنكليز والفرنسيون فهيم ورجاله، وأمدّوهم بالسلاح والتدريب، وسرعان ما انتشرت أخبار العمليات البطولية للمقاومة، وأصبح فهيم مثالاً ورمزاً في الوطنية والدفاع عن الأرض والشعب في مواجهة المحتل، ولم يبخل سكان القرى بتقديم المُؤَن وحتى المال لرجال المقاومة .

لم يكن إنتاج القمح في القرية كافياً، ولذلك اعتاد السكان أن يذهبو إلى مطحنة قريبة تُدعى مطحنة «المخاضة» وهي مطحنة قديمة تعمل على ضغط الماء المتدفق من الشلال، الذي أنشأ عليه القرويون سداً، وفي أسفله عجلة خشبية تتصل بحجر الرحى الذي يدور ليحول القمح إلى دقيق ناعم. وكان تشغيل المطحنة يحتاج إلى جهود مجموعة من العمال يقودهم البرّاك (الطحان الذي يأخذ أُجرة الطحين) ابراهيم الذي لم تترك له الأيام من السمع سوى القليل، فتراه يُحدّثك بصوت يطغى على صوت المياه والطاحون حتى تكاد تُصمُّ أُذناك .

رحل العثمانيون وحققت المقاومة نصراً مبيناً، وعاد فهيم إلى القرية، فبنى قصراً واسعاً، سرعان ما تحول إلى مقصد للزوار، وأصبح هو سيداً مهاباً يقف الحراس على بابه ليلَ نهار وصار يُعرف ب «الشيخ فهيم».

مضت السنون وحلت أزمة أقتصادية عام 1934 في معظم دول العالم، وبدأت من جديد تلوح في أُفُق لبنان أيام المجاعة المشؤومة، التي ضربت خلال الحرب العالمية الأولى، ودفعت بنصف سكانه إلى الهجرة والرحيل. فقامت السلطات حينها بتقديم الدعم للمواد الغذائية الأساسية لبيعها بأسعار معقولة، وأولها القمح والطحين .

غدا ابو طنوس على حماره باكراً، قاصداً مطحنة «المخاضة» فوجدها شبه فارغة ولم يجد أحداً، فعرّج على منزل قريب أبلغه صاحبه أنه كان يسمع المطحنة تعمل طوال الليل. فعاد إليها ليجد إبراهيم البرّاك يستريح فوق أريكة قرب النهر، ولما سأله قال: أنه لا يوجد قمح ولا طحين، وأن الاصوات في الليل سببتها مجموعة من المُكارين مرت بالمكان في طريقها إلى الشام أي أنها كانت «جعجعة بلا طحين» .

ضاق الحال على أهل القرى، وأصبح جميعهم يعلم أن رجال فهيم، الذين لا خبرة لهم في الزراعة ولا الصناعة، صاروا يعملون مع المهربين، فيبيعونهم الطحين ويؤمنون لهم الحماية عبر الجبال. وهكذا بدأ يختفي الطحين من «المخاضة»، فقرروا تقديم شكوى ضد صاحب المطحنة، لأنهم ما زالوا يحفظون الأحترام للشيخ فهيم ورجاله الأبطال، ويُحزنهم أن يشتكوا عليه .

أرسل القاضي في طلب ابراهيم، وحقق معه مطولاً. لكن ابراهيم قال: أنه يبيع الطحين إلى تجار القرى، وهو غير مسؤول عن توزيعه على المواطنين، وأمّا عمله في الليل، فهو للأستفادة من قوة تدفق المياه، التي تشح نهاراً بسبب استعمالها من قِبل المزارعين .

فشل أهل القرية في حل مسألة نقص الطحين ووقف التهريب، فقرروا اللجؤ إلى الشيخ فهيم، لعله يشعر بحالهم ويساعدهم في منع رجاله من مساعدة المهربين. وفي اليوم التالي تقاطروا إلى داره، وجلبوا ما تيسر من الهدايا، وبعد قصائد المديح والإشادة بنضاله ومواقفه الوطنية، قصّوا عليه مشكلتهم مع صاحب المطحنة والتجار والمهربين .

حار الشيخ فهيم في أمره، فهو يعلم أن رجاله يكسبون قوتهم ومالهم من تهريب الطحين، ويحصل هو أيضاً على نصف أرباحهم، ولا يمكنه وقف منهل الرزق هذا، ولكنه لا يمكنه كذلك أن يرد أهل قريته خائبين، فأمر حارسه أن يوزع عليهم كيساً من الطحين .

لم يكن بأمكان الشيخ فهيم أن يُلقي بالمسؤولية على صاحب المطحنة وهو شريكه في العمل، ولا يسعه أن يتهم أصدقاءه الفرنسيين أو الإنكليز الذين ساندوه وما انفكّوا يُقدمون له الدعم

.

لكنه كان قد سمع، أن أيام فخر الدين كان الأيطاليون يقومون بتهريب الأسلحة والبضائع إلى جبل لبنان، وهم بارعون جداً في ذلك، فقال لسكان القرية: لا نستطيع وقف التهريب ولا علاقة لنا به، و«الحق عالطليان» هم من علّم الناس على التهريب. وصار بعدها كلامه مثلاً يتداوله العامة ويتندّرون بتلك العبارة التي تضيع معها المسؤوليات .

ومنذ تلك الأيام وحتى اليوم لم يتغيير الكثير، فبات شبح المجاعة يلوح في سماء لبنان، وتهريب الطحين وغيره مستمر، وما زال «الحق عالطليان».

اخترنا لكم
شهران على الحرب: ذروة مخيفة تسحق التسوية!
المزيد
كنعان من جورة البلوط: لبنان المذكور ٧٠ مرة في الانجيل لا يموت...وبعد العسر يسر
المزيد
وهاب: الحرب إلى مزيد من العنف والدمار والاغتيالات
المزيد
مقربون من هوكشتاين: إسرائيل ستترك خلفها أرضاً محروقة
المزيد
اخر الاخبار
سعيد: حزب الله بات حالة تزعج أكثر من طرف في المنطقة والعالم
المزيد
المرتضى: العدو يطمح لخرقٍ مستديم لل ١٧٠١ و8 أكتوبر استبق عدوانا كان سيستهدف لبنان بإسنادٍ أو بدونه
المزيد
الرئيس سليمان: من يمنع حزب الله من الالتزام بإعلان بعبدا وتطبيقه فوراً؟
المزيد
شهران على الحرب: ذروة مخيفة تسحق التسوية!
المزيد
قرّاء الثائر يتصفّحون الآن
استراحة قصيرة للواء ابراهيم... وهذا ما كشفه
المزيد
زهران: حزب الله لا يخفي أين استشهد عناصره... التجهيز للرد بدأ
المزيد
صفير احتفل بقداسه الأول لمناسبة انتخابه مطرانا على ابرشية قبرص المارونية
المزيد
زهران يستشهد بآية من الإنجيل في رسالة لحواط
المزيد
« المزيد
الصحافة الخضراء
"واتس آب" يطلق ميزة جديدة لتسهيل المراسلات الصوتية في الأماكن الصاخبة
فيديو.. بسعر 6.2 مليون دولار.. بيع أغلى "موزة" في التاريخ
سابقة.. أول صورة مفصّلة لنجم في مجرّة أخرى غير درب التبانة
الحاج حسن: أضرار القطاع الزراعي هائلة ومسح جوي لتقييم الخسائر بالتعاون مع الفاو
بعد إخبار رازي الحاج... إلقاء القبض على ٤ أشخاص
إتّفاقيّة تعاون بين جمعيّة "غدي" والمركز التربوي للبحوث والانماء