تابعنا عبر |
|
|
الثائر تقدم لكم تقنية الاستماع الى مقالاتها علّم أي مقطع واستمع إليه
#الثائر
- " اكرم كمال سريوي "
قالت صديقتي:
هنا على رابيةٍ، حيث جلسَ الجمالُ يستريح، ستشعر أنك ترى العالم كله. فكيفما التفتَّ سيأخذك النظر في رحلة ساحرة، تشعر معها وكأنك تطير على أجنحة الغيم، الذي يتسلل ليلاً ليملأ جنبات الوادي، ويلتف حول القرية، كأنه شالٌ حريريٌ، جاء يُزيّن خصرها، لترقص على سيمفونية بحر من الأنغام. سيمفونية تعزفها في كل صباح، جوقة العصافير، الفرحة بشروق الشمس، كلّما أطلت من خلف قمم الباروك، وأرسلت خيوطها الدافئة، لتطرّز وشاح الطبيعة بألوان القصب.
لطالما نَعِمَ سكان قريتنا بهدوئ المكان فهم يزخرون بالطيبة، يعانقون الفرح، ويسامرون القمر على شُرفات الصيف، حتى تمزّق ضحكاتهم سكون الليل وتُبدد وحشته. وفي الصباح الباكر يغدوا معظمهم إلى عمله، فتفرح البساتين والحقول كفرح أصحابها باللقاء، وكأنهم على موعدٍ اشتاق كلاهما فيه للآخر، فأسرعا يتبادلان الحب والصحبة والعطاء.
أما من كان مثلي ممن هجر الحقل، وترك المعاول، وانصرف إلى وظائف الإدارة، حيث يتسمّر على كرسي طوال النهار، فإنه يجهد ليسرق الوقت، ويستمتع بما بقي له من نعمة السير باكراً على طريق غابة الصنوبر، لعلّه يتخلّص من أعباء المكاتب والغُرف المغلقة، ليتنشّقَ عبير الراحة والحرية في الهواء الطلق.
أنهض كعادتي كل يوم في الساعة الخامسة فجراً، أتأبط فرحي وأُسرع الخُطى، كما لو كنت أخشى أن يهرب طريق الغابة مني، فلقد اعتدت مصاحبته كرفيق عمر، وأصبحت رياضة المشي هوايتي المفضّلة.
وفي كل صباح كنت أرى فادي على شرفة منزله الصغير في طرف القرية، وزوجته إلى جانبه، تأبى أن يذهب إلى عمله، قبل أن تُعدَّ له فنجان قهوة وتملأ قلبه بالحب، وتغمر عينيه بزاد الشوق إلى عودته واللقاء.
فادي جندي من بلادي !!!
بزته العسكرية تشبه ألوان هذا الوطن، خيوطها محبوكة بالشرف والتضحية والوفاء، لا ينفصل بعضها عن بعض، هامته الشامخة، وعضلاته المنحوتة بشغف التدريب، وعنفوان الرجولة، تُشعرك بالفخر، وتجعل عينيك تفرح بلقياه، وقلبك ينبض حباً وإعجاباً.
حتى أولاده الثلاثة يرفضون أن يغادر المنزل دون أن يحصلوا منه على غمرة ولحظة عناق تكاد لا تنتهي.
مررت بالأمس، فوجدته على غير عادته، يجلس وحيداً، يحتسي قهوته، وقد فارقته الابتسامة، وبات الحزن يعتصر كيانه ويكبّل لسانه والغضب يمزّق روحه الثائرة الهائمة في كل مكان.
اقتربت لأسأل عن حاله ؟ أين هي عائلته؟ أين زوجته الجميلة؟ وأين صغاره؟ أين اختفت ضحكاتهم وأصواتهم التي كانت تملأ الأرجاء؟؟؟
أجابني والكلمة تكاد تختنق في فمه: لقد ذهبوا!!! نعم لقد ذهبوا إلى بيت أهلي!!!
فأنا لم أعد قادراً على تحمّل المصاريف، راتبي لا يكفي لشيء، ولا أملك أي دخل آخر، أشعر وكأن حياتي دُمرت لقد فارقت البهجة والفرحة بيتي.
يتنعّم المسؤولون وأولادهم بخيرات الوطن، ويُبدّدون ويُبذّرون أموالاً قاموا بنهبها من جيوب الناس، والآن يقولون لنا الدولة مفلسة، بسبب رواتب القطاع العام، رغم أن هذه الرواتب أصبحت لا تساوي شيئاً، وهم لا يخجلون بأن يدفعوا لخادمة المنزل ٣٠٠ دولار والجندي الذي يحمي الوطن راتبه ٥٠ دولاراً.
لا أحد منهم يشعر بما يعانيه العسكريون، وبما نكابد من صعوبات، حتى لا أحد منهم يسأل ماذا يأكل جنود هذا الجيش ولا كيف يعيلون عائلاتهم أو يذهبون إلى مراكز عملهم.
أعلم أنني أخدم وطني وأضحي لأجله، لكن ما يؤلمني هو أن أرى الفاسد والسارق والجبان، يجلس على كرسي المسؤولية، ويتحكم بمصير الوطن وشعبه.
وعندما أرى مواكبهم الفضفاضة تجتاح الطرقات والمواطنين، أتمنى لو أُطلق عليهم الرصاص وأقتلهم جميعاً، انتقاماً لشعبي وما فعلوه بلبنان.
ما قيمة الحياة إذا كنّا سنعيشها بذلٍّ ومهانة؟؟؟، كيف أنظر في عيون أطفالي، وماذا سأخُبرهم عندما يكبرون ويسألونني عن الوطن!!!،
ولماذا كنّا جبناء وتوانينا عن واجبنا في حمايته من الأعداء؟؟؟
أوليس المسؤول الذي سرق شعبه وأفقره، هو العدو الأول للوطن؟؟؟!!!
فادي هو كل جندي من بلادي، وجُرحه بات جرح شعبٍ، غُلّت يداه بالفقر، وأنهكه فساد مسؤوليه، وأقعده الألم، حتى عن الصراخ والكلام، فالصمت ابلغ أحياناً، وأصدق في التعبير عما يُخالج القلب ويدور في البال.
روت لي صديقتي والدمع يملأ عينيها وختمت تقول: لن أعيرك ألمي، بل سأقاسمك همومي، لعل الكلمة تُخفف وطأة الأسى، وتبلسم جرحاً بات بحجم وطن.