تابعنا عبر |
|
|
الثائر تقدم لكم تقنية الاستماع الى مقالاتها علّم أي مقطع واستمع إليه
#الثائر
كتب الوزير السابق سجعان قزي في النهار:
إلى إيران كلُّ الاحترامِ وأقصى التوقِ إلى أفضلِ العَلاقات معها. لكنَّ إيران حَجَبت الكثيرَ الذي يَجمعُنا بها وأبْرزَت القليلَ الذي يُفرِّقُنا. توَغُّلُ القوميّةِ الفارسيّةِ في الحالةِ اللبنانيّةِ عَكّرَ الفكرةَ اللبنانيّةَ التاريخيّةَ وكَدّرَ انتماءَ لبنان إلى المحيطِ العربيّ. وما خَلا بيئةَ حزبِ الله اللصيقةَ، لا يَشعرُ اللبنانيّون بهذه القوميّةِ في وِجدانهم ولا يَعتبرون أنّها كانت يومًا جُزءًا من لبنانيّتِهم رغمَ جَلالِ بلادِ فارس عبرَ التاريخ. هذا الشعورُ شَملَ "الشيعيّةَ اللبنانيّةَ" التي كانت تُشكِّلُ أكثريّةَ المجتمعِ الشيعيِّ لغايةِ سيطرةِ حزبِ الله عليه، إذ نَقل علاقةَ الشيعةِ بإيرانِ من التواصلِ الدينيِّ الحرّ إلى التبعيّةِ القوميّةِ. إلا أنَّ لبنانَ انْتقلَ منذ عقودٍ من صراعِ العقائدِ القوميّةِ إلى صراعِ العصبيّاتِ المذهبيّة. وإذ أساءَ الصراعُ الأوّلُ إلى الولاءِ للبنان، فإنّه، بالمقابل، أغنى الحياةَ الفكريّةَ والثقافيّة. أما الصراعُ الثاني فأفْسدَ لبنانَ وأدْرجَه على لائحةِ التَصَحُّرِ الفكريِّ والثقافيِّ والانهيارِ الاقتصاديّ.
صِرنا، نحن اللبنانيّين، نَنتمي إلى قوميّاتِ الحنين. قوميّاتُنا المبتكَرةُ التي شاغَبَت على دولةِ القانون في لبنان، أمْسَت في مُتحَفِ الوِجدان. ومع ذلك لا نزالُ نُناغيها كأنّها حديثةُ الولادةِ وبدونِ أن نَتأكّدَ ما إذا كانت من لحمِنا ودمِنا أو اعتَنقناها بالتبنّي أو فُرِضَت علينا بالتسوياتِ أو صادَرتْنا بالشَهيّةِ والشُبهةِ. نُناظِرُ من أجل فينيقيا، والفينيقيّون غافِلون عنا. نقاتلُ من أجل العروبة، والعربُ ساهون عنّا. ونَهدِمُ وطنَنا من أجلِ بلادِ فارس والفُرسُ يَستخْدِمونَنا. و"اللبنانيّةُ" التي جَمعَتنا ووَحّدَتنا، وسَـمَت بنا إلى العُلى، وحَجَزت لنا مَقعدًا بين الأمم، نَتنكّرُ لها. نَتعلّقُ بالغائبين ونُهمِلُ لبنانَ الموجودَ أمامَ أعينِنا. نُحوِّل عمدًا البديهيّاتِ اللبنانيّةَ إشكاليّاتٍ. وعِوضَ أن نُضيفَ كلَّ سنةٍ حَجرًا على بُنيانِ لبنانَ لنُدعِّمَ أركانَه، نروح نَقتلِعُ كلَّ يومٍ حَجرًا منه حتى يَتهدَّم.
لقد وَفّرَ لبنانُ الكبيرُ المستقِل وَضعًا فريدًا للمسلمين والمسيحيّين لا نظيرَ له في الشرقِ الأوسط. قبلَ السنواتِ الأخيرة، كان وضعُ المسيحيّين في لبنان، من ناحيةِ حرّياتِهم وحقوقِهم، أهمَّ من وضعِ المسيحيّين في الدولِ المسيحيّة. وكان وضعُ المسلمين فيه أفضلَ من وضعِ المسلمين في أيِّ بلدٍ مُسلم. مَن يغامِرُ فيُسمّي بلدًا مسلِمًا يَتمتَّعُ فيه المواطنون المسلمون بالحرّياتِ الشخصيّةِ والجماعيّةِ والسياسيّةِ والاقتصاديّةِ وبالكرامةِ والعنفوانِ أكثرَ من مُسلمِي لبنان؟ لو لم يَتأسّس لبنانُ الكبير لما سطعَ نَجمُ الشخصيّاتِ اللبنانيّة العظيمةِ، ولَكانت الفئاتُ الرافضةُ كيانَ لبنان رعايا مضافةً إلى كِياناتٍ أخرى وأنظمةٍ أخرى، وما أدراكُم ما الأنظمة؟
لم يَنشأ لبنانُ من العَدَم. وهو ليس كِيانًا "مُرْتَجلًا" بل وُلدَ من رُسوماتِ التاريخِ على الجغرافيا، ومن صمودِ شعبِه بوجْهِ الاضْطهادِ، ومن أيقوناتِ الحضارةِ والحرْفِ والشِراع. شرعيّتُه التاريخيّةُ تفوقُ شرعيّتَه الدستوريّة. لبنانُ وطنٌ تَرقْرقَ في العصور دَمًا. ورغمَ ذلك، يَلتبسُ على البعضِ الفارقُ بين العنوانِ الجغرافيِّ والانتماءِ الوطنيّ، وبين الحدَثِ التاريخيِّ العابِر والشعورِ القوميِّ الثابت. ليس كلُّ ما يَحدُثُ حَولنا عبرَ التاريخِ يَصنعُ قوميّةً ولو اسْتوطنَ الذاكرة. القوميّةُ الأمّ تَـمتَصُّ جميعَ الأحداثِ، تُنقّيها، تُفرِزُها وتَحتفظُ بالإيجابيِّ منها وتَلفِظُ السلبيَّ. هكذا تَقوى القوميّاتُ، وتَضَعُ طاقتَها في الدولةِ وتُطِلُّ على الحداثةِ. لكن ما نُعايِنُه اليوم ــــ ونُعاني منه ـــ أنَّ المجتمعاتِ التي حاولت تجاوزَ الفكرِ القوميِّ، عادت إلى جاذبيّتِه، لاسيّما في أوروبا وأميركا وآسيا، مع عنفٍ يُشبِه عنفَ القرنِ التاسعَ عشرَ ونِصفِ القرنِ العشرين (أوكرانيا/روسيّا، مقدونيا/الجبل الأسود، إسبانيا/كتالونيا، فرنسا/كورسيكا)، إلخ...
عبرَ تاريخِنا بَرزت ثلاثُ مراحلَ عظيمةٍ: فينيقيا بحضارتِها، إمارةُ الجبلِ الدُرزيّةُ/المارونيّةُ باستقلالِها الذاتيِّ النسبيّ، ودولةُ لبنان الكبير بديمقراطيّتِها وصيغتِها المسيحيّةِ/الإسلاميّة. الباقي فتوحاتٌ واحتلالاتٌ وطَمْسُ هُويّة. لكنَّ مشكلةَ لبنان أن الصراعَ يدورُ بين الّذين يؤمنون بالمراحلِ العظيمةِ الثلاثِ والّذين يوالون الفتوحاتِ والاحتلالاتِ وطَمْسَ الهُويّة. وكلّما وَقَع اللبنانيّون في أزمةٍ مصيريّةٍ وواجَهوا مأزِقَ تعايشٍ ـــ كما حالُهم اليوم ـــ يَشُدُّ الحنينُ غالِبيّةَ اللبنانيّين إلى تلك المراحلِ العظيمةِ الثلاثِ، وتَعِنُّ على بالِـهم استعادةُ إحْداها كأنَّ الماضي عِلاجُ الحاضرِ والمستقبَل، وكأن تلك النماذجَ تنتظرُ مذكرّةَ استِدعاء. في العُمقِ، اللبنانيّون يَبحثون عن واحةٍ أكثرَ مـمّا يَبحثون عن وطن، ويُفتِّشون عن الجماعةِ المتجانِسةِ أكثرَ مما يُفتِّشون عن الجُمهوريّةِ المتنافِرة. تَعِبوا من وطنِ الأزَماتِ والحروب.كان الفيلسوفُ الفرنسيُّ أوغست كونت (1798/1857) يقولُ: "إنَّ المجتمعاتِ السياسيّةَ الناجحةَ تعتمدُ المحبّةَ مبدأً والنظامَ قاعدةً والتقدّمَ هدفًا".
مع "اتفاقِ الطائف" اعتقدَ البعضُ أنّنا انتَقلنا إلى الجُمهوريّةِ الثانية، وأنَّ الآتيةَ ستكونُ الجمهوريّةَ الثالثة. الحقيقةُ أنّنا هُجِّرنا إلى ما قبلَ الجُمهوريّةِ الأولى، ولم نَحُطّ على أرضِ الثانية، بل انتَقلنا إلى "الجُمهوريّاتِ الثانيةِ" التي هي نقيضُ الجمهوريّةِ الشرعيّة. ولا أخالُ آباءَ "الطائف" وأبناءَه يَقبَلون بأنْ توسَمَ الجُمهوريّةُ الحاليّةُ بجمهوريّةِ الطائف، ولا بأن يكونَ دستورُ الطائف الطريقَ الأقرَبَ إلى تَبعثرِ لبنان. اللبنانيّون اليومَ أمامَ خِيارِ تثبيتِ هذه الجُمهوريّات، وهي ليست جُزءًا من الحنينِ القوميِّ ولا من الطائف، أو الانتقالِ إلى جُمهوريّةٍ جديدةٍ تَحترمُ في دستورِها التعدّديّةَ الحضاريّةَ والخصوصيّاتِ الثقافيّةَ والمناطقيّة. الخِيارُ النهائيُّ يَتوقّفُ على مصيرِ مشروعِ حزبِ الله: مع حزبِ الله اللبنانيِّ يُمكننا أن نَبنيَ بلدًا ميثاقيًّا بدستورٍ لامركزيٍّ موسَّع، لكن مع حزبِ الله الإيرّانيِّ لا مجالَ لذلك. والمؤسِفُ أنّنا نُعاني من الثاني ولم نَتعرّف بعدُ على الأوّلِ.
نشأت الميثاقيّةُ لتكمِّلَ الدستورَ المدنيَّ لا لتَنقُضَه. واسْتُؤْنِس بالتوافقيّةِ لتُخفِّفَ من حِدّة التباينِ بين القوى السياسيّةِ لا بديلًا عن الأكثريّةِ والأقليّة. لكن الحاصلَ أنَّ قوى معيّنةً تَلتَفُّ على هذه القيمِ الديمقراطيّةِ السامية، فتعُطِّلُ ما يُمكن تعطيلُه، وتُلغي ما يُمكن إلغاؤه، وتُشوِّهُ ما يُمكن تشويهُه وتُقسِّمُ ما يُمكن تقسيمُه حتى صارت دولةُ لبنان مَحلَّ خُرْدَةٍ بعدما كانت حَبّةَ الخَــرْدَلِ التي نَبتَت في هذا الشرق. إنَّ فشلَ التجربةِ اللبنانيّةِ لا يَطالُ الكيانَ السياسيَّ، فقط، بل يمتدُّ إلى الأديانِ المكوِّنةِ هذا الكيان. سقوطُ لبنان هو إدانةٌ تاريخيّةٌ للبنانيّين كأتباع أدياٍن أكثرَ مـمّا هو إدانةٌ إياهم كمواطنين في دولة عادية. وزيارةُ البابا فرنسيس المرجحةُ قريبًا إلى لبنان مزدوجةُ الأبعاد: إنقاذُ الجمهوريّةٍ وإحياءُ الأُخُوّةِ المسيحيّة/الإسلاميّة. هل يأتي البابا باكرًا أم متأخّرًا؟