تابعنا عبر |
|
|
الثائر تقدم لكم تقنية الاستماع الى مقالاتها علّم أي مقطع واستمع إليه
#الثائر
من حلم الآلة البخارية، إلى عاصفة الذكاء الإصطناعي، كانت البشرية تعيش في ما بين الرغبة في تحقيق الإختراعات المتعلقة بالذكاء الإصطناعي، والتحدّي للسيطرة عليها، والقلق من تفلّتها. وتعبيراً عن حالة الإضطراب هذه، أعرب "أينشتاين" عن "خوفه من اليوم الذي ستتجاوز فيه التكنولوجيا التفاعلات الإنسانية، لأن العالم سيسوده حينها جيل من الأغبياء".
إن تدخل الذكاء الإصطناعي في مختلف المجالات، أثار خشية الكثير من العلماء والفلاسفة والباحثين في العلوم القانونية والإجتماعية وغيرهما من العلوم الإنسانية. ولكن الأمر يزداد رُعباً عندما نرى إستخدامات الذكاء الإصطناعي في عالم الجريمة، ولاسّيما الجرائم المنظّمة العابرة للحدود الوطنية وحتى القارية وجرائم الإرهاب.
فهل يُمكن أن يكون الذكاء الإصطناعي شكل من أشكال الإجرام البشري الحديث؟ وهل يُعقل أن يخرج الذكاء الإصطناعي عن السيطرة البشرية؟ وماذا إن هدَّد الذكاء الإصطناعي بالإستغناء عن خدمات البشر؟ هل يُمكن منح الشخصية القانونية لكيانات الذكاء الإصطناعي؟ هل القوانين الوضعية الحالية تكفي وحدها لتنظيم وتحديد المسؤولية الجزائية عن جرائم الذكاء الإصطناعي؟
إن العلاقة فيما بين العقل البشري والذكاء الإصطناعي، جعلتنا نستحضر الديالكتيك الهيغلي حيث الفكرة تخلق نقيضها، وبتفاعلهما تولد فكرة جديدة، فتخلق نقيضها من جديد، ويستمر الأمر هكذا على قاعدتي نفي النفي، والتحول النوعي نتيجة للتراكم الكمي. فالعقل البشري خلق الذكاء الإصطناعي، فهل بتفاعلهما سنصل إلى مخلوق جديد إلكترو- بيولوجي؟ أم أن أحدهما سينفي الآخر، بمعركة عنوانها صراع الحضارات فيما بين الإنسانية والإلكترونية، وصولاً إلى عالم جديد؟ أم إن التراكم الكمّي للذكاء الإصطناعي والعالم الإفتراضي سيؤدي بنا إلى تحول تاريخي ينجم عنه مجتمع جديد يعيش خارج الزمكان (الزمان-المكان)؟ هل إرتكب الإنسان خطأً فادحاً بحق نفسه حين إخترع الذكاء الإصطناعي؟ وهل الذكاء الإصطناعي هو بمثابة قنبلة توشك على الإنفجار؟
بناءً على ما تقدم، وبالنظر لما يُشكّله الذكاء الإصطناعي من خطورة واقعة على البشرية، وما يُمكن أن ينشأ عنه من جرائم، أصبح التصدّي لهذه الظاهرة أمراً ضرورياً وواجباً على المستوى القانوني لحماية البشرية، إما من أجل عدم إستغلال هذه التكنولوجيا من قبل المجرمين في تنفيذ خططهم الإجرامية، وإما في الجرائم التي يُمكن أن تنشأ بفعل هذه التكنولوجيا عن التكنولوجيا نفسها (بحد ذاتها) عن طريق الخطأ غير المتعمد الذي يُصيبها، وإما عبر إقتراف هذه التقنية بشكلٍ واعٍ لجريمة تُشكل حينها تحدٍ لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية.
إزاء ما تقدم، يهدف هذا الكتاب، إلى التعرف على الذكاء الإصطناعي، والبحث في طبيعته القانونية، فيما إذا كان هناك مجال لنيله الشخصية القانونية التي يُمكن على أساسها تحميله المسؤولية الجزائية؟ بالإضافة إلى التعرّف على جرائمه المتنوعة كوجه من وجوه الإجرام الحديث، وما ينتج عنها من تحديات قانونية على مستوى القواعد الموضوعية في عملية التجريم والعقاب.
عليه سيكون الكتاب عرضة للكثير من الإنتقادات وردود الأفعال المؤيدة والمعارضة، حيث سيرى البعض في توجهاتنا مخالفة للثوابت القانونية التقليدية المستقرة في كل من نظرية الأشخاص من جهة، ونظرية المسؤولية من جهة أخرى، إذ لا مكان لهذا "القادم الجديد" في أي منهما، ما سيكسب الكتاب بُعداً جدلياً واضحاً، الأمر الذي سيقدم الفكرة البحثية كمحاولة فقهية تهدف لفهم مختلف هذه الأراء وتقييمها، بغية الخروج برأي قانوني، نعتقد أنه الأقرب إلى الصواب، دون أن يصادر ذلك أي رأي قانوني آخر.
وقد قسمنا هذا الكتاب إلى قسمَين رئيسيين، تناولنا في القسم الأول منه الذكاء الإصطناعي بين التطور التكنولوجي والجريمة الجزائية، بهدف تبيان علاقة الذكاء الإصطناعي بالجريمة، وذلك بعد توضيح مفهوم ونهضة هذا الذكاء والخصائص التي يتمتع بها، وصولاً إلى أنواعه وطبيعته القانونية، بالإضافة إلى التطرق إلى دوره في الجريمة، سواء لجهة مكافحتها، أو لجهة إرتكابها وتهديد البشرية.
وفي القسم الثاني، تناولنا المخاوف من تنامي ظاهرة إجرام الذكاء الإصطناعي، عبر عرض المسؤولية الجزائية وترتيبها، سواء على الأشخاص أو على الذكاء الإصطناعي نفسه، مع الإلتفات في نظرة أولية إلى الجزاء العقابي، من خلال وضع ضوابط وعقوبات للحدّ من الذكاء الإصطناعي كي لا يتحول إلى الجريمة، وصولاً إلى إقتراح مسودة مشروع قانون لمواكبة تطوره تحقيقاً للعدالة الجزائية، التي تُعتبر الحجر الأساس في التصدي لهذا الإجرام الحديث، علّها تكون نقطة الإنطلاق، أو بدايةً لمناقشات أوسع نطاقاً حول الذكاء الإصطناعي، كتحدٍ جديد للقانون الجزائي.